Document Type : Original Article
Author
Cinema Department, Faculty of Filmmaking and Performing Arts, Badr University in Cairo, Egypt
Abstract
Keywords
Main Subjects
تمهيد:
شهدت السينما البولندية خلال النصف الثاني من القرن العشرين مساراً متعرجاً ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد، إذ انعكست آثار الحقبة الشيوعية، وأجواء القمع، والصراعات الداخلية على طبيعة الإنتاج السينمائي وموضوعاته. ومن بين المخرجين الذين تمكنوا من تحويل هذه الظروف القاسية إلى لغة فنية عالمية المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي (1941–1996)، الذي أصبح أحد أبرز الأصوات السينمائية في أوروبا المعاصرة، بل وواحداً من أكثر المخرجين تأثيراً في مسار السينما العالمية أواخر القرن العشرين.
تميّز كيشلوفسكي بمسيرة غنية ومتنوعة بدأت مع السينما الوثائقية التي شكلت له مختبراً بصرياً ووجدانيًا لرصد التفاصيل اليومية للإنسان العادي، ومع مرور الوقت انتقل إلى السينما الروائية حيث صاغ أسلوباً متفرداً يجمع بين الواقعية النقدية والرمزية الشعرية. وقد مكّنته هذه الخلفية المزدوجة من التعامل مع قضايا مجتمعه المحلي وفي الوقت ذاته طرح أسئلة إنسانية كونية تتجاوز حدود بولندا. إن هذا المزج بين الخاص والعام، بين الاجتماعي والفلسفي، هو ما جعل من كيشلوفسكي حالة استثنائية في السينما الأوروبية.
ويُعد مسلسل "الوصايا العشر" (The Decalogue, 1988) نقطة تحول محورية في مسيرته الإبداعية، ليس فقط لأنه شكّل إنجازاً فنّياً من حيث البناء الدرامي وتكثيف اللغة السينمائية، بل لأنه قدّم معالجة عميقة للأسئلة الأخلاقية والوجودية للإنسان المعاصر. استلهم كيشلوفسكي من الوصايا التوراتية إطاراً رمزياً، لكنه حوّله إلى قصص معاصرة تدور أحداثها في أحياء وارسو الكئيبة، بين شخصيات عادية تواجه خيارات أخلاقية معقدة وصراعات داخلية عميقة. ومن هنا جاءت أهمية هذه السلسلة التي جمعت بين الطابع المحلي من حيث المكان والزمان والظروف التاريخية، والطابع الكوني من حيث الموضوعات الإنسانية التي طرحتها.
ولم يتوقف تأثير كيشلوفسكي عند حدود الوصايا العشر، بل امتد إلى أعمال لاحقة أبرزها "فيلم قصير عن القتل" A Short Film about Killing "و"فيلم قصير عن الحب"A Short Film about Love، وهما نسختان مطولتان من جزأين من السلسلة، حملا بصمة بصرية وفكرية خاصة عززت مكانته كمخرج يطرح قضايا العدالة، العقاب، الحب، والوحدة بطريقة بصرية جريئة وصادمة أحياناً. ثم جاءت مرحلة التسعينيات لتشهد انفتاح كيشلوفسكي على البعد الميتافيزيقي والوجداني في أعمال مثل "الحياة المزدوجة لفيرونيك" (The Double Life of Veronique, 1991)، حيث عالج ثنائية الهوية والازدواجية الروحية، وصولًا إلى ثلاثية الألوان: أزرق، أبيض، أحمر (Three Colors: Blue, White, Red, 1993-1994) التي تناولت شعارات الثورة الفرنسية (الحرية، المساواة، الأخوة) في سياق إنساني وفلسفي واسع.
إن دراسة سينما كيشلوفسكي ليست مجرد تحليل لأعمال فنية معزولة، بل هي أيضاً محاولة لفهم كيف يمكن للفن أن يتحول إلى مرآة للواقع، وإلى أداة للتأمل في المصير الإنساني. فهو مخرج استطاع أن يمزج بين الحسّ التسجيلي الذي اكتسبه من الوثائقي وبين الشعرية البصرية في أفلامه الروائية، مقدمًا بذلك أسلوباً سينمائياً يقوم على المراقبة الدقيقة للشخصيات، وتتبع تفاصيل حياتها اليومية، وإبراز أزماتها الداخلية عبر اللقطات القريبة والإيقاع البطيء والموسيقى المصاحبة. وقد جعل هذا الأسلوب من أعماله نصوصاً مفتوحة للتأويل، حيث يمكن قراءتها من زاوية سياسية، أو فلسفية، أو جمالية.
كما أن تجربة كيشلوفسكي تكشف عن قدرة السينما على تجاوز حدود الترفيه لتصبح أداة للتفكير في قضايا أخلاقية معقدة مثل الحرية، الغفران، العدالة، والقدر. وقد عبّر بنفسه في أكثر من مناسبة عن انشغاله بالإنسان كقيمة عليا في الفن، معتبراً أن السينما بالنسبة له ليست مجرد سرد للحكايات بل وسيلة لاكتشاف الذات والآخر، ومواجهة الأسئلة الكبرى التي يطرحها الوجود. ولهذا فإن أعماله تظل حتى اليوم موضوعاً للبحث الأكاديمي والنقدي في مختلف أنحاء العالم.
وعليه، فإن هذه الدراسة تسعى إلى تحليل البنية الدرامية والأبعاد الوجودية في سينما كيشلوفسكي من خلال قراءة معمقة لسلسلة الوصايا العشر والأفلام المرتبطة بها. والغاية من ذلك هي الكشف عن الكيفية التي مزج بها بين الشكل والمضمون، بين المحلي والكوني، وبين الواقع والميتافيزيقا، لتقديم تجربة سينمائية فريدة تجمع بين الجمالية البصرية والعمق الفلسفي.
أهمية البحث:
تنبع أهمية هذه الدراسة من تناولها لسلسلة الوصايا العشر (1988) التي تُعدّ من أبرز إنجازات المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي، حيث قدّم من خلالها معالجة درامية عميقة لمعضلات أخلاقية ووجودية يعيشها الإنسان المعاصر. وتمثل هذه السلسلة انعكاساً للواقع الاجتماعي والسياسي لبولندا في الثمانينيات، وفي الوقت نفسه تطرح أسئلة كونية تتجاوز حدود المكان والزمان. تكمن أهمية البحث في الكشف عن العلاقة بين تقنيات الإخراج التي اعتمدها كيشلوفسكي، مثل توظيف الإضاءة واللون والإيقاع البصري، وبين الموقف الفكري والفلسفي الذي أراد التعبير عنه من خلال شخصياته وأحداثه. ومن هنا تأتي الدراسة لتُبرز دور كيشلوفسكي في تشكيل ملامح سينما بولندية متميزة ذات أبعاد جمالية وإنسانية عالمية.
منهج البحث وأدواته:
اعتمد الباحث على المنهج الوصفي التحليلي بوصفه الأداة الأنسب لدراسة البنية الفنية والدلالية لأعمال كيشلوفسكي. ولتحقيق ذلك، استخدم الباحث أسلوب العينة العمدية باختيار حلقات محددة من سلسلة الوصايا العشر إلى جانب الفيلمين المشتقين منها (فيلم قصير عن القتل وفيلم قصير عن الحب). كما تم الاستعانة بالمصادر النقدية والنظرية ذات الصلة، واللجوء إلى التحكيم الأكاديمي لضمان دقة اختيار المادة التطبيقية وتوافقها مع أهداف البحث وإشكاليته.
مشكلة البحث:
تكمن مشكلة البحث في التساؤل الرئيس الآتي:
كيف أسهمت السمات الفنية في سلسلة الوصايا العشر في تشكيل الرؤية الجمالية والفكرية لكريستوف كيشلوفسكي، وبأي صورة عكست هذه السمات الظروف الاجتماعية والسياسية لبولندا في الثمانينيات؟
وانطلاقًا من هذا التساؤل، افترض الباحث أن:
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى:
حدود البحث:
اقتصر البحث على دراسة سلسلة الوصايا العشر (1988) بوصفها العمل المحوري في مسيرة كيشلوفسكي، مع التوقف عند الفيلمين المشتقين منها (فيلم قصير عن القتل وفيلم قصير عن الحب). كما تناول البحث مقاربة مقارنة مع بعض الأعمال اللاحقة مثل الحياة المزدوجة لفيرونيك (1991) وثلاثية الألوان (1993–1994)، وذلك بهدف تتبع تطور رؤية كيشلوفسكي من السياق المحلي البولندي إلى الأبعاد الإنسانية الأوسع.
الدراسات السابقة
شهدت سينما كيشلوفسكي اهتماماً واسعاً من النقاد والباحثين، حيث تنوعت المقاربات التي تناولت أعماله:
ومع ذلك، تركزت معظم هذه الدراسات على المرحلة الفرنسية في مسيرته (فيرونيك والثلاثية)، بينما لم تحظَ سلسلة الوصايا العشر بالتحليل الكافي، خاصة فيما يتعلق ببنيتها الدرامية وعلاقتها بالسياق الاجتماعي والسياسي لبولندا. وهنا يقدّم هذا البحث إضافته، من خلال تناول الوصايا العشر بوصفها عملاً متكاملاً يجمع بين البنية الدرامية المحكمة والبعد الأخلاقي والوجودي، ويكشف عن رؤية كيشلوفسكي الجمالية والفكرية في أكثر مراحل مسيرته اكتمالًا.
التحليل التطبيقي لسلسلة الوصايا العشرة :The Decalogue, 1988
ابتعد كيشلوفسكي شيئاً فشيئاً عن الموضوعات المعنية بالمجتمع البولندي، وبهذه العملية اكتسب أسلوباً جديداً، يمكن التعرف عليه على أنه أسلوبه. وكجزء من الموجة البولندية الجديدة، حارب كيشلوفسكي من أجل مجتمع أكثر عدلاً، ومن الواضح أن الأفلام كان لها وظيفة مختلفة في ذلك الوقت، كانت موضوعاتها تتطلب أسلوباً مباشراً في السرد، لأن المحتوى كان يعتبر أكثر أهمية من الشكل.
مثلاً في مقابلات كيشلوفسكي في فترة السبعينيات وأوائل الثمانينات، هناك القليل من الحديث عن الأسلوب أو الجماليات، حيث وقتها كان للفيلم وظيفة مفيدة، وكان الموضوع الرئيسي في تلك الأفلام هو الحياة الصعبة للبولنديين. في حين أن في سلسلة الوصايا العشر (The Decalogue, 1988) كان التركيز على الأسئلة الوجودية بشكل أعمق. ومع ذلك ظلت قصص كيشلوفسكي معاصرة ، ولم تتخل تماماً عن الشأن البولندي.
في سلسلة الوصايا العشر والفيلمين "فيلم قصير عن القتل" و "فيلم قصير عن الحب" ، النسختان المطولتان من الجزئين الخامس والسادس من المسلسل ، يركّز كيشلوفسكي بشكل أكبر على الفرد بمشكلاته الأخلاقية والوجودية، البيئة الاجتماعية موجودة في الخلفية ولكنها لا تتدخل في تحديد تصرفات الشخصيات على نطاق واسع كما في أفلامه السابقة. وكلما ابتعد كيشلوفسكي عن السياق الاجتماعي البولندي، تقلّص دور العالم المحيط أو الخارجي بأكمله في أفلامه. في كل وصيّة نرى كيف يتعامل الأبطال مع مشاكلهم الشخصية وعواطفهم وكيف يتطورون كبشر، وهذا الشيء ينطبق أيضاً على الأفلام اللاحقة : فيلم الحياة المزدوجة لفيرونيك (The Double Life of Veronique, 1991) و ثلاثية الألوان: أزرق ، أبيض ، أحمر (Three Colors: Blue, White, Red, 1993-1994) .
كما في أفلامه الروائية الأولى، ولكن بتركيز أكبر، يحاول أبطال كيشلوفسكي العثور على مكانهم في العالم. في الأفلام السابقة كانت شخصياته أكثر نشاطاً وفاعلية، ولكن في سلسلة الوصايا العشر والأفلام اللاحقة تحدث معظم الأحداث داخل عقول الشخصيات ، وطبعاً لإيجاد حل لمعضلة وجودية لايتطلب الأمر بالضرورة الكثير من النشاط البدني. تقضي الشخصيات وقتاً طويلاً في التفكير في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ويتم تكثيف الزمن في المشاهد التي لا يفعلون فيها شيئاً على وجه الخصوص، يستجيبون لمشاعرهم الخاصة بدلاً من الأحداث الخارجية. ومن أجل تمثيل التجربة الشخصية لأبطاله يقدم كيشلوفسكي تقنيات وأساليب سينمائية جديدة.
إن جميع حلقات سلسلة الوصايا العشر عبارة عن قصص معاصرة، تدور أحداثها في بولندا الثمانينيات. بعد انتهاء الحكم الشيوعي، كانت بولندا تمر بفترة سيئة، ولم تكن التطلعات جيدة، ويمكن الشعور بهذا الجو القاتم في السلسلة. "قال كيشلوفسكي أنه لاحظ في منتصف الثمانينيات أن الناس، ليس فقط في بولندا ولكن في الخارج أيضاً، فقدوا إحساسهم بالصواب والخطأ، وفقدوا أيضاً قيمهم واتجاههم في الحياة. وهذا ما أراد التعامل معه في المسلسل".[1]
على الرغم من أن كيشلوفسكي حاول أن يتجنب التفاصيل غير السارة ، إلا أن كآبة الحياة اليومية في بولندا حاضرة في هذه السلسلة، حيث يعيش جميع الأبطال في نفس الحي وهو حي ماريمونت السكني "Marymont" في العاصمة وارسو. تبدو أبنية الحي كتل رمادية ضخمة مثيرة للاكتئاب، وسكانه يرتدون ملابس قبيحة ويبدون متعبين وغير معتنين بأنفسهم.
وكما هو معتاد في أفلام كيشلوفسكي، يتم سرد القصة في الوقت الحاضر، ومع ذلك فإن ماضي الشخصيات مهم في القصة، ويظهر بين الحين والآخر من خلال المحادثات، أو الصور الفوتوغرافية، ونادراً ما يتم استخدام الفلاش باك. يتمتع أبطال كيشلوفسكي بالمصداقية لأن لديهم ماضٍ، هذه القدرة على خلق شخصيات نابضة بالحياة تعود إلى خبرته الطويلة في العمل كمخرج أفلام الوثائقية، وإلى تجربته مع أناس حقيقيين. يعطي الماضي لشخصياته خلفية تؤثر على أفعالهم في الوقت الحاضر.
إن التلفزيون يستطيع أن يصل إلى الناس بسهولة، وكيشلوفسكي استطاع أن يخلق هذا التواصل ببراعة. والبراعة في سلسلة الوصايا العشر هو كيفية الحصول على المشاهد في اللحظة المناسبة، كيشلوفسكي يعتبر سبّاق بالتعامل مع التلفزيون، لأنه قادم من السينما فهو يفهم الوسيط ويفهم المجتمع ويعي تماماً ماذا يريد أن يقدّم وهو في الأساس مخرج أفلام وثائقية، وهذا مايجعل وجود احتكاك مباشر مع الإنسان، والطبقات الاجتماعية، ومعظم الطبقات التي يتعامل معها كيشلوفسكي وسط و دون، لأنها الشريحة الأوسع في مجتمعه، بل وفي العالم كله.
في أفلام كيشلوفسكي عموماً تتابع الكاميرا البطل باستمرار مما يخلق انطباعاً بأننا كمشاهدين حاضرون دائماً عندما يحدث شيء مهم، وغالباً ما يتم استخدام أحجام لقطات قريبة للشخصيات الرئيسية، سواء في الأفلام الوثائقية أو الروائية. هذه المراقبة الدقيقة لشخصيات كيشلوفسكي جعلتها سمة رئيسية من سمات أسلوبه.
يحدّد كل جزء من أجزاء الوصايا العشر رواية مكثفة، و تتعامل القصص مع مواقف معيّنة، حيث يتعين على الأبطال فجأة مواجهة أسئلة وجودية. يتم حل المشكلات بشكل رئيسي في عقول الشخصيات، مع القليل من استخدام الأفعال الجسدية. في بداية كل حلقة ينجذب المتفرج بسرعة إلى خضم الموقف، ولا تأتي النهايات بالضرورة بحل، ولهذا يخلق لدينا انطباعاً بأننا رأينا جزء بسيط من حياة هؤلاء الناس. فيما يتعلق بالطول الإجمالي للسلسلة، يأخذ كيشلوفسكي وقتاً كبيراً في تتبع تفاصيل الحياة اليومية، حيث نرى الشخصيات الرئيسية تسقي النباتات، تحتسي القهوة، تقرأ، تسخن مياه الاستحمام، تحضر العشاء.... وهذا يخلق شعوراً بالانغماس في العالم الحقيقي ومشاركة الشخصيات، وهو نفس الأسلوب الذي اتبعه كيشلوفسكي في أفلامه الوثائقية. ومع ذلك فإن الحياة اليومية ليست كل ما في هذه القصص، لأنها في النهاية تدور حول قضايا روحانية.
ظاهرياً قد يبدو أنه لا يوجد الكثير مما يحدث في حياة هؤلاء الأشخاص، ولكن في مرحلة ما يواجهون أزمة تسبب لهم القلق في حياتهم. يعيش جميع الأبطال في نفس العقارات السكنية التي تشبه الكتل الرمادية الضخمة. أراد كيشلوفسكي إظهار أن كل شخص لديه شيء يريد أن يخبرنا عنه، وأن هناك الكثير ما يحدث داخل هؤلاء الأشخاص المحبوسين في هذه الصناديق الخرسانية. يركز كيشلوفسكي على الجانب المظلم من المشاعر الإنسانية، فهناك مرض، موت، وحدة، عزلة، غيرة، وكراهية. يخدع الناس بعضهم، ويؤذون بعضهم البعض، يكذبون، يسرقون، يتجسسون على الآخرين ، بل ويقتلون أحياناً. من ناحية أخرى هناك أيضاً حب وشفقة ، ولكن نادراً ما تؤدي المشاعر الإيجابية إلى خاتمة سعيدة.
1-1- الوصية السادسة:
يعيش "توميك" البالغ من العمر تسعة عشر عاماً مع أمه العرابة، ويقيمان في غرفة ابنها أثناء تواجده خارج بولندا. نشأ توميك الخجول في دار للأيتام، ولديه عدد قليل من الأصدقاء ويعمل موظفاً في البريد. يتجسس "توميك" على امرأة جميلة في الأربعينات من عمرها تدعى ماجدة ، والتي تعيش في مجمع سكني مجاور ومن الواضح أنها فنانة، ثم نعلم فيما بعد بأن توميك يراقبها منذ أكثر من عام. يراقبها كل ليلة باستخدام التلسكوب، أثناء تواجدها في المنزل، تقوم بالأعمال المنزلية، أو تعمل على لوحاتها الفنية، وتستقبل الرجال، ويرسل لها إخطارات بريدية مزيفة في صندوق بريدها لحوالة بريدية غير موجودة في مكتب البريد الخاص به، من أجل الاقتراب منها، كما يقوم باتصالات هاتفية إلى منزلها من أجل سماع صوتها. يركز هوس توميك أكثر على أنشطتها اليومية بدلاً من حياتها الجنسية؛ عندما يراها تمارس الجنس مع الرجال ، يدير التلسكوب بعيداً ولا يشاهدها. يتعلم توميك أن هناك مشكلة في توصيل الحليب لمجمع ماجدة السكني، لذلك يتولى مهمة التوصيل ليكون أقرب منها.
يقدم كيشلوفسكي شخصية أستاذة الأخلاق المسنة "زوفيا" في تسلسل طويل يتتبع روتينها الصباحي، ترافقها الكاميرا وهي تركض وتقوم بتمارين بدنية في غابة قريبة من منزلها، حيث تلتقي بلاعب أكروبات، في طريق العودة تشتري الزهور وتلتقي بجارها. في المنزل تقوم بترتيب الأشياء، تتناول إفطارها، ثم تقود سيارتها للعمل. يخلق لدينا انطباع بأن هذا ما تفعله دائماً. على هذه الخلفية، فإن الأحداث اللاحقة هو لقاءها بفتاة يهودية من ماضيها تدعى "إلجبييتا"، وهنا ما يحدث تغييراً كبيراً في حياة "زوفيا".
2-1- الوصية الثالثة:
تتغير حياة شخصية البطل المسالمة، عندما تظهر حبيبته السابقة. يقضي يانوش ليلة عيد الميلاد مع أسرته. أضواء عيد الميلاد الملونة تعطي انعكاسات دافئة في كل مكان. الإيقاع في البداية يكون بطيء، من خلال حركة الكاميرا التي تراقب تعابير الناس. ومع ذلك يوجد هناك جو من التوتر. حتى قبل الصورة الافتتاحية، نسمع صوتاً مخموراً يصرخ بترنيمة عيد الميلاد، ثم يظهر رجل مخمور وهو يجر شجرة عيد الميلاد خلفه، ثم يظهر البطل يانوش Janusz"" لأول مرة وهو يرتدي قناع بابا نويل في سيارته. عند الباب يلتقي بأحد الجيران، وهو الأب من الوصية الأولى، الذي هو الآن وحيد بعدما فقد ابنه. إيفا البطلة الأخرى التي ليست لديها إلا أمها المصابة بمرض في عقلها، تشعر بالوحدة أيضاً. بينما يحتفل الآخرون مع أحبائهم، يعاني المشردون والبؤساء. يلاحظ يانوش وجود إيفا في قداس عيد الميلاد، يرن جرس الـintercom في المساء، ثم ينزل يانوش من منزله ليجد حبيبته السابقة إيفا، التي تطلب منه المجيء معها والبحث عن زوجها الذي اختفى في وقت مبكر من اليوم. يختلق يانوش قصة لزوجته أن سيارة الأجرة التي يعمل عليها قد سُرقت. وعلى الرغم بعدم سعادة يانوش برؤية إيفا، إلا أنه يذهب معها.
حتى الآن ، كان الإيقاع بطيئاً على الرغم من التوترات الواضحة. بعد فترة وجيزة من بدء البحث، يصبح الجو أكثر توتراً، حيث تعود الذكريات المؤلمة لتظهر، ويتم توجيه الاتهامات إلى يانوش الذي يقود السيارة بجنون في المدينة، في مرحلة ما يجذب يانوش وإيفا انتباه الشرطة، لأنهما يقودان سيارة مسروقة لقد أصبح الوضع متوتراً أكثر فأكثر، يتبع هذا التسلسل الساخن تسلسل أكثر هدوءاً في شقة إيفا حيث يمران ببعض اللحظات الرومانسية. يواصل يانوش وإيفا البحث، حتى تخبره بأنها اختلقت قصة اختفاء زوجها. لقد تركها الزوج منذ فترة طويلة، وهي راهنت بنفسها: إذا تمكنت من إبقاء يانوش معها حتى الصباح، فلن تقتل نفسها. ثم يعود يانوش إلى منزله، ويعد زوجته بأنه لن يرى إيفا مرة أخرى.
قام كيشلوفسكي بضغط عملية البحث عن الزوج التي استغرقت عشر ساعات على الأقل، في حوالي ثلاثين دقيقة دون أن يلاحظ المتفرج المناطق التي تتكثف فيها الأحداث، نفقد إحساسنا بالوقت، بسبب المشاعر القوية التي تم تصويرها، حيث تظهر المشاهد أطول مما هي عليه في الواقع. تظهر الأحداث الليلية على أنها تؤثر على الشخصيات الرئيسية بقوة، ويتم جذب المتفرج ليقترب منهم من خلال لقطات حميمية ومكثفة. في لحظة ما ينظر إيفا ويانوش بحنان إلى بعضهما البعض، وفي اللحظة التالية يثار الشك مرة أخرى، ومثلهم تماماً، ينسى المشاهد مرور الزمن، والليل يبدو طويل بالفعل.
"إن الزمن الذاتي للأبطال يمر بسرعة وبسبب ذلك، فإن لحظتهم الحالية تدوم طويلاً، يجدون أنفسهم يتذكرون علاقتهم، مما يعني أن أذهانهم مشغولة طوال الليل، وفجأة يدركون، وأيضاً نحن كمتفرجين، أن الزمن قد مر بالفعل."[2] تنجح الوصية الثالثة في إثارة شعور المشاهد، مشابهاً لما عاشه إيفا ويانوش. يمكن ضغط الزمن داخل مشهد عدة مرات كما في المثال السابق.
"يتسم الزمن السينمائي بالمرونة. فيمكن في الفيلم ضغط يوم بأكمله في دقائق قليلة أو حتى ثواني وأيضاً يمكن للدقائق والثواني أن تطول إلى ما يبدو أنه يوم بأكمله"[3]. مثال آخر هو مشهد المحاضرة في الوصية الثامنة، يُطلب من الطلاب خلال المحاضرة وصف بعض المعضلات الأخلاقية. يستمر المشهد حوالي خمس دقائق فقط، ولكنه يبدو وكأنه استغرق حوالي ساعة، والذي ساعد في ذلك أنه شمل جميع مراحل المحاضرة العادية تقريباً، ولا توجد علامات حذف مرئية واضحة. إن معظم الأنشطة والأفعال التي تحدث في الوصايا العشر هي أشياء يومية عادية، لقد تم تكثيف القصص بطريقة خلقت انطباعاً بأن جميع الأفعال تحدث بوتيرة طبيعية، وفي الوصية الثامنة هناك حالة تكثيف موجودة، وترجمة عبقرية لمفهوم الزمن، ومفهوم الماضي الذي هو جزء من الحاضر، والألم الذي يثير بنا الاستمرار بالحياة والبحث وراء الحقيقة. " فالسينما هي وسيلة لحفظ الزمن وأيضاً للتعبير عنه، لذا فهي حاولت أن تربط الزمن وأثره بالإنسان."[4]
قصة استاذة الأخلاق "زوفيا" وهي سيدة في منتصف الستينات، بروفيسور في الجامعة، تمارس حياتها اليومية بشكل طبيعي، إلى أن يتم اكتشاف قصة من خلال الامرأة "إلجبييتا" التي تزورها في الجامعة لأنها تعمل عنها أبحاث، والتي كانت قد ترجمت أعمالها الأدبية، وقامت بتحليلها لنكتشف من خلالها قصة حدثت بالفعل في يناير 1943 أثناء الحرب العالمية الثانية، قصتها عندما كانت طفلة والتي بسبب الحرب ابعدت عن أهلها، ووُعدت بالحصول على المساعدة من بعض العائلات الكاثوليكية، ولكن الامرأة التي أرسلت إليها الطفلة ترفض أن تستقبلها، وتُترك الفتاة لمصير مجهول. فكانت الوسيلة للوصول للحقيقة هي الأدب، وأبداً لم يكن الأدب محض خيال مجرد، فهذه الطفلة مرت بمعاناة وتجربة إنسانية حقيقية نتج عنها هذا الإنسان الذي استطاع أن يصمد كل هذا الوقت (حوالي أربعين عاماً)، وكل الأفكار والمعتقدات لاتستطيع أن تقف مقابل إنقاذ طفل، ففي هذه القصة هناك إعادة لاكتشاف الإنسانية، وبوح، وإعادة اكتشاف للماضي من خلال المرآة التي تعكس الحياة، وكذلك الأمر حياة "إلجبييتا" عندما كانت طفلة بالنسبة للأستاذة "زوفيا" ومحاولة فيما لو يستطيع الإنسان إصلاح شيء من الزمن ولكن عبثاً، وهذه النتيجة التي أنهى بها المخرج عند الرجل المسن الخياط والذي اكتشفنا أنه هو من عاشت عنده "إلجبييتا" الطفلة، وكأن الماضي هو مرآة مظلمة لاتعكس إلا نفسها.
كانت عودة "إلجبييتا" إلى الماضي من خلال النفق المظلم، عندما ذهبت لترى المكان الذي تربت فيه، وشخصياته التي أصبحت لاتشبهه، و لاتشبه مامر به هذا المكان من مأساة.
أيضاً هناك اختلاف في تعاطي الناس مع فكرة الحياة، ولذلك كان هناك دعوة إيجابية عند الرجل الخياط أنه لايريد أن يتذكر أي شيء يتعلق بالحرب حتى ولو كان شيئاً إيجابياً مرتبط بإنقاذ حياة طفلة، وحتى بهذا الإصرار كان هناك اقتراب بحديثهم عن الماضي والزمن، وهذه المواجهة هي المرآة المظلمة التي يقصد بها الزمن خاصةً أنه كان مثقلاً بالدمار والحرب والحرمان والموت والهرب من أجل النجاة، مواجهتها كانت محمّلة بالثقل الذي شعرنا به طوال مدة الفيلم عند الأستاذة "زوفيا"، "إلجبييتا"، والرجل الخياط ، كان هناك ثقل في المشاعر والتعبير وكانت ترجمة كيشلوفسكي صادقة جداً عندما نقلها للمتلقي، بالإضافة إلى معايشة الشخصية للحظات حساسة جداً. قد تبدو "لإلجبييتا" أن أكثر المشاعر قوّة عندما واجهت هذه المرآة الزمنية: عندما قررت البقاء في منزل الأستاذة "زوفيا" هناك حالة بلوغ للرضا، وأكد على ذلك كيشلوفسكي عندما كانت تصلي، حيث أنها استطاعت مواجهة الحقيقة على الرغم من الفترة الزمنية الطويلة، وعلى الرغم من أن الأستاذة "زوفيا" ذهبت إلى نيويورك، لكن إلجبييتا لم تواجهها إلا في موطنها بولندا.
إن الشيء البارز في هذه الثنائية هو البساطة في التعبير عن أمور معقدة جداً. وهذا الثقل الذي يحمّله بالمشاعر وبالمضامين عند الشخصيات هو الذي يخلق وقع حتمي بالتواصل مع الشخصية.
شخصية إلجبييتا عبّرت عن بولندا ومامرت به من حروب، عبّر كيشلوفسكي عن ذلك بشكل خفي وبنفس الوقت مؤثر، واستطاع من خلالها ومن خلال باقي الشخصيات أن ينقل مشاعر الحرب، مع أن المرات التي عبّرت فيها شخصياته عنها كانت معدودة جداً.
أيضاً هي مثال جيد للتكثيف السردي والطرق غير المباشرة للتعبير. سأقدم تحليلاً مفصلاً إلى حد ما لآخر خمس عشرة دقيقة من الفيلم. خلال هذا التسلسل ، توصلت الأحداث ، التي تكشفت حتى الآن ببطء ، إلى نتيجة مفاجئة نوعاً ما. يرتبط السرد والإيقاع مرة أخرى ارتباطاً وثيقاً بالتجارب العاطفية للأبطال.
يقضي كيشلوفسكي أول أربعون دقيقة ليطلعنا على الشخصيات الرئيسية، نتعرف على "دوروتا" المتوترة التي تدخن بكثرة، والطبيب صاحب الخصوصية الذي يعيش في نفس البناء السكني. منزل دوروتا حديث وكئيب، بينما منزل الطبيب مليء بالنباتات والطيور، و "دوروتا" موسيقية ومن الواضح أنها غنية جداً. على الجانب الآخر الطبيب يبدو أن حياته متواضعة.
بعد حوالي عشر دقائق، يتم الكشف عن سبب عصبية دوروتا، زوجها "أندريه" مصاب بالسرطان، وحالته ميؤوس منها، ودوروتا حامل بطفل من رجل آخر، وعليها أن تقرر قريباً ما إذا كانت ستنجب أو ستُجهض. بسبب مشكلتها، تبدأ بالضغط على الطبيب لإخبارها ما إذا كان سيتعافى زوجها "أندريه" أو لا، فإذا تعافى يجب أن تقوم بالإجهاض، وإذا مات يمكنها الاحتفاظ بطفلها. يجد الطبيب نفسه في مأزق، ففي البداية لا يستطيع ببساطة أن يقول كيف ستكون حالة "أندريه". ثم في وقت لاحق تبدأ حالة أندريه" بالتحسن، لكن الطبيب يشعر بأنه مضطر للكذب بأن أندريه سيموت، لأنه يريد أن تحتفظ دوروتا بالطفل، والطبيب متأثر بشدة من هذه الحالة على المستوى الشخصي، لأنه فقد زوجته وابنه أثناء الحرب، لذلك اختار الكذب وخرق قانونه المهني.
يبدأ التسلسل عندما تزور دوروتا أندريه في المستشفى، التي كانت قد قررت الإجهاض، و أندريه مصاب بالإكتئاب ولا يتفاعل مع وجودها. تخبر دوروتا الطبيب في النهاية بقرارها، والطبيب منعها من إجهاض الطفل، وأقسم أن أندريه سيموت. تنتهي المحادثة والمشهد مع السطر الأخير في الحوار للطبيب الذي يود أن يذهب ليستمع إلى الأوركسترا، حيث أن دوروتا عازفة كمان فيها، عندما تغادر دوروتا المستشفى تبدأ موسيقى كئيبة بالدخول، وتستمر طوال الفترة الطويلة القادمة، حيث تقف دوروتا عند نافذتها، ثم تتحرك الكاميرا من أمام نافذتها باتجاه الأسفل، لنرى الطبيب يقف عند نافذته، تشير التباينات القوية بين الضوء والظل إلى الأزمات العاطفية التي يمر بها كلا الطرفين. تستقر الكاميرا على الطبيب لفترة طويلة، ثم تعود الكاميرا لتتحرك بجهة اليمين لنرى المزيد من النوافذ المظلمة، ثم فجأة تتسارع الوتيرة حتى تتوقف وتستقر في لقطة مقرّبة على أندريه في سريره في المستشفى. لقطة التتبع السريعة خلقت وهماً بالمساحة والوقت المستمر بين المشهدين. لا نعرف ما إذا كانوا يتبعون بعضهم البعض على الفور، أو ما إذا كان هناك فاصل زمني. ولكن حركة الكاميرا أكدت على الارتباط العاطفي بين الأشخاص الثلاثة. يتم التعبير عن الاتصال على مستوى الأفكار بشكل أفضل من خلال حركة الكاميرا أكثر من القطع البسيط. نشعر أن الشخصيات الثلاث في هذا معاً؛ وأن أفعال أحدهم ستؤثر على الاثنين الآخرين. حركة الكاميرا في نهاية فيلم "أزرق" لها وظيفة مماثلة.
في اللحظة التي نرى فيها أندريه في لقطة قريبة يفتح عينيه لأول مرة في الفيلم، تتحول الموسيقى الحزينة وتصبح أكثر بهجة، بسبب شعور الأمل الذي تجدد لديه. وعلى عكس وجهي الطبيب ودوروتا اللذين يملأهما الظلال، فإن وجه أندريه تغمره الإضاءة. يستدير أندريه للنظر إلى أعلى وإلى اليمين وتستمر الكاميرا في حركتها المتقطعة إلى اليمين، في اتجاه نظر أندريه، لتستقر عند كوب الكمبوت*. الكاميرا مائلة قليلاً تتابع حركة نحلة تحاول تحرير نفسها من السائل في لقطة قريبة جداً، تتسلق ببطء فوق مقبض الملعقة الموجودة في الكأس، يبدو الأمر كما لو أننا دخلنا فجأة إلى عالم صغير، ثم قطع يكشف أن أندريه يتابع الكفاح ضد مرضه، أخيراً تتمكن النحلة من الخروج من السائل، وهذا توقع مجازي لمصير أندريه.
لا يتم توضيح تعافي أندريه إطلاقاً، ولكن من خلال حركة الكاميرا ، واستخدامات الإضاءة، والتغيير في الموسيقى، جعلنا نلاحظ تغيراً في الحالة المزاجية للجو العم، وهذا كان كافياً للتعبير عن عودة أندريه إلى الحياة.
مع بدء المشهد الأخير من الفيلم، تختفي الموسيقى، أندريه الذي بدأ بالتعافي، يدخل إلى مكتب الطبيب ليشكره، ويخبر الطبيب أنه هو و دوروتا سينجبان طفلاً، ويسأله عن الشعور في إنجاب طفل، يجيب الطبيب متأثراً: بنعم.
كما في العديد من أفلام كيشلوفسكي، السرد في الوصية الثانية كان يتكوّن من محادثات حميمة ولحظات هادئة مكثفة، مع القليل من الأفعال الجسدية. في معظم الأوقات نرى الشخصيات في لقطات قريبة أو متوسطة، والأحداث معظمها تدور في أذهان أبطال الفيلم. وهذه رغبة كيشلوفسكي في النظر إلى ماهو داخل الشخصيات.
يعتبر كيشلوفسكي أن نقل بعض الأحاسيس والحدس والعواطف أهم من نقل قصص كاملة، وقد أظهر ذلك أيضاً في فيلم "فرصة عمياء" فعلى الرغم من أن البطل يمر بالكثير من الأحداث، إلا أن ما نشاهده في معظم الوقت هو المحادثات بين الشخصيات، وهذا يجعلنا نتعاطف معها، أكثر من التفاعل مع الفيلم نفسه، هذه المشاعر ترتبط برغبة المخرج في إيصال أفكاره.
بدأت كل من الوصايا العشر وثلاثية الألوان بأفكار وموضوعات كبيرة، الوصايا العشر التي نزلت على سيدنا موسى، وشعارات الثورة الفرنسية (الحرية والأخوة والمساواة). ابتكر كيشلوفسكي مواقف لتوضيح هذه الأفكار، وهذه المواقف لا تشكل أبداً سرداً متكاملاً، يمكن القول أن المواقف المأساوية في فيلم "أزرق" ترتبط بشكل موضوعي بمشاعر الحزن، المصير المأساوي للشخصية الرئيسية "جولي" هو طريقة للبحث في مفهوم الحرية، وكذلك اللغة السينمائية نفسها.
سوف تتكرر في العديد من حلقات الوصايا العشر شكل الأقطاب الثلاثة أو المثلث من خلال ثلاثة شخصيات.
3-1- الوصية الأولى:
من خلال الأب "كريستوف"، والابن "بافل" ، والعمة ايريني". العمة الملتزمة دينياً، بينما الأب الذي لديه اتجاه علماني فكري صرف مغاير تماماً، وبينهما الطفل الذي يتولد عنده صراع فكري في وقت مبكر من خلال إثارة الأسئلة الوجودية والشكوك، أيضاً مضمون الحوار الذي حدث بين الطفل والعمة، والنتيجة بأن يوجد الطفل الإجابات بنفسه.
يعيش الأب "كريستوف" بمفرده مع ابنه "بافل" البالغ من العمر اثني عشر عاماً والذي يتمتع بذكاء عالٍ. لديهم في المنزل العديد من أجهزة الكمبيوتر، حيث يقوم الأب مع ابنه بالعديد من التجارب في البرمجة من خلال الكومبيوتر، مثل فتح و إغلاق الأبواب أو تشغيل وإيقاف صنبور المياه.
دائماً يطلب "بافل" من والده أن يعطيه مسألة صعبة في الفيزياء، حيث يقوم بحلها بسرعة كبيرة على جهاز الكمبيوتر الخاص به. في وقت لاحق يبدأ في التساؤل عن أشياء عميقة في الحياة، وذلك بعد رؤيته لكلب ميت في البحيرة المتجمدة، حيث يسأل والده عن طبيعة الموت ، ويقدم له شرحاً موضوعياً للموت باعتباره نهاية لجميع الوظائف الحيوية.
يبدأ "بافل" في التساؤل بأشياء أعمق في الحياة حيث يقوم بانشاء برنامجاً يسمح له بمعرفة ما تفعله والدته ( التي تعيش في قارة مختلفة نظراً لأن الوقت كان متأخراً بالنسبة لبولندا ) حيث يقوم بطرح سؤال لجهاز الكمبيوتر بماذا تحلم والدته، لكن الكومبيوتر غير قادر على الإجابة، ولكن عندما يسأل العمة إيريني تجيبه بإنها تحلم به. ثم يتحدث "بافل" إلى عمته عما قاله والده عن الموت؛ تتوسع في ذلك وتتحدث عن الروح والدين.
في أحد الأيام يستخدم "بافل" ووالده جهاز الكمبيوتر لحساب ما إذا كان من الممكن له التزلج على البحيرة المتجمدة، لمعرفة ما إذا كانت ستحمل وزنه. وبعد ملء البيانات في الكمبيوتر، يقول إن الجليد يستطيع أن يحمل عدة أضعاف وزن "بافل"، و يذهب الأب إلى البحيرة ليتأكد بأن الجليد قوي بما يكفي لحمله.
يضع الأب إيمانه في قوة الحسابات العلمية، ويسمح لبافل بالتزلج بعد أن اطمأن من خلال جهاز الكمبيوتر. في اليوم التالي يسمع الأب صفارات الإنذار لرجال الإطفاء، ويندفع عدد كبير من الناس باتجاه البحيرة، يبدو أن الجليد قد كسر. ظل "كريستوف" هادئاً في البداية ورفض تصديق أن الجليد يمكن أن ينكسر ، لأن حساباته تشير بوضوح إلى أن هذا لم يكن ممكناً.
بعد البحث في جميع أنحاء الحي ، يتأكد الأب من أحد سكان الحي بأن "بافل" كان يتزلج وقت وقوع الحادث.
تشعر العمة والأب باليأس بعدما تأكدا بأن "بافل" قد غرق في البحيرة، ثم يدخل "كريستوف" لاحقاً إلى كنيسة ويقوم بتدمير كل شيء وكأنه يلوم الرب بما فعل بابنه. ينزل الشمع السائل على وجه لوحة لمريم العذاء، مما يجعلها تبدو وكأنها تبكي. ينتهي الفيلم عندما يغرق الأب في البكاء، ثم يجثو على ركبتيه، ويحاول وضع الماء المقدس على جبهته، لكن الماء متجمد.
هناك رسالة واضحة من كيشلوفسكي في هذه الحلقة بأن لايوجد شيء يقف في أمام القدر، وهنا العلم والأرقام والحسابات جميعها خسرت أمام القدر، وكان ضحية ذلك الطفل "بافل" نتيجة الصراع الفكري الذي تولد لديه.
المثلث هو الطبيب، والزوجة "دورتا"، والزوج هذا الشكل المثلث في توزع الأحداث من خلال الشخصيات، خلق نوع محكم من البناء الدرامي. لو تصورنا بأن هذا البناء بين الفرد وذاته، قد يكون خالي من الحبكة (مسار مستقيم) لايوجد فيه هذه الانتقالات، ولكن هنا يوجد صراع بين الشخصية وذاتها، ولكنه ينعكس مع شخصية أخرى من خلال الزوجة "دوروتا" التي تعيش صراع لأنها أقامت علاقة مع رجل آخر بينما زوجها مايزال على قيد الحياة، حيث تنشأ هنا مسائلة أخلاقية على صعيد الذات، وكيفية تقبلها لفكرة أنها قامت بهذا الفعل، وكذلك الأمر بالنسبة للطبيب الذي يعيش صراع عندما يصر على ابقاء الطفل وتأكيده على فقدان الأمل في بقاء زوجها على قيد الحياة مع أنه يعلم تماماً أنه من الممكن أن يشفى ، فهو عاش هذا الصراع من قبل عندما فقد ابنه وزوجته في الحرب، وبالنسبة للمرأة أيضاً وهذا الذي يخلق البنية المحكمة في الدراما.
تدور أحداث القصة في النسخة الأطول من الوصية الخامسة "فيلم قصير عن القتل" حول ثلاثة رجال لا يعرفون بعضهم البعض: سائق تاكسي، وشاب يدعى "ياتسك"، ومحامي حديث التخرج اسمه "بيوتر". ثلثي القصة تدور أحداثها في فترة ما بعد الظهيرة في مدينة وارسو حيث تتشابك أقدار الأشخاص الثلاثة مع بعضهم البعض: ياتسك يقتل سائق التاكسي. و يتم تعيين المحامي "بيوتر" للدفاع عن "ياتسك" كقضيته الأولى، ثم يتم الحكم على ياتسك بالإعدام، وهو ما اعتبره المحامي بيوتر فشلاً شخصياً.
يبدأ كيشلوفسكي الفيلم بصور تجعلنا نتوقع النتيجة، حالتي وفاة في لقطتين، في أول لقطة نرى فأراً ميتاً يرقد في بركة مياه، ثم اللقطة التالية لقط مشنوق. تحدد هذه المقدمة الكئيبة الجو العام لبقية الفيلم. حتى الطريقة التي ماتت بها الحيوانات تشبه الطريقة التي يموت بها الرجلان: قتل أحدهما على ضفة نهر وترك ملقى هناك ، وأعدم الآخر شنقاً في السجن. يتم تقديم الأفكار حول الجريمة والعقاب في الفيلم من خلال المونولوج الداخلي لبيوتر، ثم يتم عرضها في الفيلم شيئاً فشيئاً:
يتكون الفيلم من ثلاثة تسلسلات مرتبطة. يقدم التسلسل الأول والأطول الشخصيات الثلاثة من خلال المونتاج المتوازي، وينتهي عند لقاء ياتسك بسائق التاكسي ومن ثم قتله. التسلسل الثاني هو الأقصر. ويتألف من ثلاثة مشاهد قصيرة تجري في المحكمة حيث يتم النطق بالحكم النهائي: الحكم على ياتسك بالإعدام، أما التسلسل الثالث هو الاستعدادات لتنفيذ الحكم، والمحادثة الأخيرة بين المحامي بيوتر وموكله ياتسك ، ثم التنفيذ. لم يتم تحديد الفجوة الزمانية بين التسلسلات بشكل واضح. أدناه سأفحص هيكل الفيلم بمزيد من التفصيل وأتأمل في كيفية ارتباطه بمعانيه.
في بداية التسلسل الأول، لا تدرك الشخصيات الثلاثة وجود بعضها البعض. ثم يعمل المونتاج المتوازي على جمعهم، "وكل خط للقصة منهما ينمو ويتطور على حدة مسهماً بمعلومات جديدة في كل ظهور متتال"[5] بدءاً من سائق التاكسي، الذي يبدأ يومه بغسل سيارته في مكان كئيب، تخلق المباني الشاهقة جواً خانقاً، ونادراً ما يتم رؤية السماء في هذه اللقطات. في نفس الوقت يظهر الشاب المتسكع الكئيب ياتسك، وهو يمشي في المدينة. تشير أصوات أجراس الكنائس التي تسمع في كلا المشهدين إلى التوافق الزمني بينهما. تسقط قطعة قماش مبللة من مكان مرتفع وتكاد أن تصيب سائق التاكسي، ثم يدخل ياتسك إلى السينما، وبدلاً من أن يشتري تذكرة ليشاهد فيلماً ، يسأل موظفة شباك التذاكر عن أقرب موقف لسيارات الأجرة. في مكان آخر ينتظر المحامي الشاب المتوتر "بيوتر" بدء امتحانه النهائي، وسرعان ما يبدأ بالإجابة. يبدأ المونتاج المتوازي بين الشخصيات الثلاثة.
يتم الجمع بين القصص الثلاث شيئاً فشيئاً، يتضح أنها تحدث في نفس المدينة وفي نفس الوقت. لا يلتق الأبطال في الواقع قبل الجريمة ، لكن سائق التاكسي و"بيوتر" يلمحان بعضهما البعض. يتيح المونتاج المتوازي للمشاهد مراقبة حركات الأشخاص الثلاثة كما لو كان يشاهدهم من أعلى، دون أن تعرف الشخصيات نفسها، في وقت ما يكاد ياتسك وبيوتر أن يلتقيان في المقهى. ينشأ جو من التوتر عندما يتضح أن هؤلاء الأشخاص سيجتمعون عاجلاً أم آجلاً؛ ومن الواضح أن اللقاء لن يكون ممتعاً. تسمح وجهة النظر الشاملة للمتفرج برؤية المسار العشوائي والمصيري للأحداث. تتناوب وجهة النظر بين الأبطال الثلاثة، بمعنى أنه يُسمح لنا بمعايشة الأحداث من ثلاث وجهات نظر مختلفة.
طوال الفيلم يعرف المتفرج أكثر من الشخصيات، ولكن في نفس الوقت نحن مرتبطون بين الحين والآخر بمنظورهم الذاتي، ويخلق المونتاج المتوازي أوجه شبه ليس فقط على مستوى القصة ولكن أيضاً على مستوى الخطاب. في الدقائق العشر الأولى نشعر بالحيرة قليلاً بشأن ما يحدث، ثم يبدأ السرد بالتماسك عندما يبدأ "بيوتر" بالتحدث أمام الممتحنين، يشرح اختياره للمهنة بالقول إن وظيفة المحامي ستمكنه من مقابلة وتعلم فهم الأشخاص الذين لن يقابلهم لولا ذلك. يتم سماع أجزاء من خطاب "بيوتر" في الموسيقى التصويرية بينما يُرى "ياتسك" وسائق التاكسي بشكل منفصل وكل منهما يتابع عمله. خلال مونولوج "بيوتر" نعلم أنه لا أحد منهما شخص طيب، كلاهما يلعب باستمرار حيلاً سيئة، وفي حالة "ياتسك" تؤدي إلى أكثر من ذلك، أما بالنسبة لسائق التاكسي، فهو لا يبالي لانتظار العملاء، ويخيف كلاب صغيرة بضغطه على زمور سيارته، ويحدق بوقاحة في فتاة مراهقة، ومن ناحية أخرى يتقاسم طعامه مع كلب مشرد، وهو ويتصرف بلباقة للغاية تجاه بعض تلاميذ المدارس.
تم وضع ياتسك كغريب في المدينة، يتجول فيها بلا هدف، تم التأكيد على ذلك عندما ذهب إلى فنان يرسم لوحة لفتاة صغيرة على الرغم من عدم اهتمامه بالفن، فهو يريد فقط معرفة مكان وقوف سيارات الأجرة، يشعر الفنان أن هناك شيئاً غريباً في ياتسك، في حين أن نظرة الفتاة له تؤكد أنه شخص غريب، يبدو كما لو أنها شعرت بشيء ما. يراقب "ياتسك" دون إبداء أي ردة فعل بينما يتعرض شخص ما للضرب، ويسقط حجراً من جسر يمر فوق طريق سريع يتسبب في حادث سيارة.
يصبح كلام "بيوتر" حول عدم توافق القانون والواقع كأنه تعليقاً على هذه الأحداث. يظهر بيوتر في لقطة متوسطة مما يجعله يبدو معلقاً خارجياً على الأحداث. في وقت لاحق يخرج من هذا الدور الشبيه بالأفلام الوثائقية ، ليصبح شخصية رئيسية ضمن أحداث الفيلم.
العدوان والعنف موجودان في الفيلم منذ الصور الأولى على مستوى القصة وأسلوب السرد. اللقطات الأولى تكون غامضة بعض الشيء، ولكن الارتباطات بين خيوط القصص الثلاثة تبدأ بالظهور شيئاً فشيئاً. تيمة العدوان والعنف هو أول تشابه يظهر بين خطوط السرد الثلاثة، من خلال لقطات لحيوانات ميتة ، تصرفات سيئة للناس، وحديث بيوتر عن الجريمة. أيضاً تم استخدام فلتر أخضر في التصوير مع وجود حواف مظلمة حول الصورة أو أحد جوانبها طوال الوقت تقريباً والذي خلق تأثير يشبه القزحية، جميع هذه العوامل بالإضافة إلى زوايا الكاميرا الغريبة والمشوهة، والموسيقى الحزينة ساعدت على خلق جو من الشؤم. أيضاً عداء البيئة يغذي عدوان الناس والعكس صحيح، يبدو أن الاعتداء الذي شهده ياتسك قد أثر على سلوكه. منذ البداية تقريباً تم إعداد المُشاهد لتلمحيات صغيرة للقاء بين سائق التاكسي وياتسك، فعندما يتم الكشف عن علامة التاكسي الخاصة بسيارة الرجل، يدرك المتفرج أنه في النهاية، قد يكون هو السائق الذي سيركب معه ياتسك، حيث كان ياتسك يسأل عن موقف سيارات الأجرة.
خلال التسلسل الأول، يصل سائق التاكسي إلى وسط المدينة، ثم يرى بيوتر يقود دراجته النارية ويحتفل بتخرجه. بعد ذلك بقليل، بيوتر وصديقته يخططان لمستقبلهما في نفس المقهى الذي يراقب فيه ياتسك موقف سيارات الأجرة ويخطط لفعلته، في نفس اللحظة يظهر سائق التاكسي وهو يتجنب العملاء، كما كان يفعل منذ بداية اليوم، ومن الواضح الآن أنه سيجتمع مع ياتسك. أخيراً يمشي ياتسك إلى موقف سيارات الأجرة ، ويختار الرجل الذي قضى وقته في التهرب من العملاء أن يركب معه قاتله "ياتسك". تتوهج السماء بألوان غريبة وتدخل الموسيقى المشؤومة أثناء مغادرة التاكسي، في نفس اللحظة يدخل بيوتر فجأة في حالة اكتئاب، قائلاً لصديقته أن الأمور قد تصبح سيئة بالنسبة له بعد كل شيء.
خارج البلدة وعلى ضفاف نهر يقوم ياتسك بقتل سائق التاكسي، خلال عملية القتل الطويلة والشاقة، يدرك فجأة ما هو الشيء الفظيع الذي يقوم بفعله، ومع ذلك لا يمكنه التراجع أكثر من ذلك. " لقد أراد كيشلوفسكي تصوير عملية القتل باعتباره مرهقاً جسدياً وعقلياً، على عكس أفلام الحركة حيث يكون القتل سريعاً وسهلاً "[6] بعد القتل يعود ياتسك إلى المدينة لمقابلة فتاة تدعى بياتا، وهي نفس الفتاة التي كان سائق التاكسي يحدق بها في وقت سابق. ينتهي التسلسل الأول عندما تقوم بياتا بسؤال ياتسك من أين حصل على السيارة.
ثم قطع إلى اليوم الذي تقترب فيه محاكمة ياتسك، يتم النطق بحكم الإعدام على ياتسك، ويشعر بيوتر بخيبة أمل، ثم يهنئه القاضي على أفضل خطاب سمعه ضد عقوبة إعدام. يتضمن التسلسل أيضاً مشهداً قصيراً صامتاً يواجه فيه بيوتر أقارب ياتسك.
ثم قطع إلى يوم الشنق، يوضح كيشلوفسكي بدقة الاستعدادات قبل الإعدام. يصل الأشخاص المختصون، ويتأكدون من أن كل شيء يسير على ما يرام، ثم يلتقي بيوتر بياتسك من أجل محادثة أخيرة ، وبعدها يتم إعدامه. التفاصيل التي قدمها كيشلوفسكي جعلت المشاهد على دراية بمدى روتين الإجراء، كل شيء سار بسلاسة حتى اللحظة الأخيرة، عندما أصيب ياتسك بالذعر أثناء التنفيذ الفعلي، أدى إلى أن الجميع أيضاً أصيب بحالة من الذعر. ينتهي الفيلم بالمحامي بيوتر وهو يجلس في سيارته وحيداً يبكي وبجواره أراض زراعية.
الفيلم عبارة عن مقارنة بين عمليتي قتل. في التسلسل الأول يقتل ياتسك سائق التاكسي. في التسلسل الثاني تفرض الدولة عقوبتها، وفي التسلسل الثالث يتم تمثيل كل من جرائم القتل بأسلوب واقعي صريح وغير عاطفي، ومع ذلك يتم الإشارة إلى الاختلافات، وكما يصفه كيشلوفسكي "القتل الأول بطيء وفوضوي، أما الثاني بيروقراطي سريع "[7] .
مرة أخرى يستخدم كيشلوفسكي وقتاً طويلاً للتحضير للمواجهة الرئيسية، التسلسلات التي تصور عمليات القتل طويلة أيضاً، ولكن على عكس ذلك لم يتم استخدام أي وقت تقريباً لاكتشاف أسباب القتل. لا نعرف لماذا يقتل هذا الفتى الريفي رجلاً لا يعرفه، أيضاً لا يظهر كيشلوفسكي المحاكمة، وعادة ما تركز الأعمال الدرامية في قاعة المحكمة على إيجاد الدوافع والأسباب التي أدت إلى الجريمة. ومع ذلك ، يستبعد كيشلوفسكي تقريباً كل تلك الأسباب والمشاعر البشرية التي قد تساعدنا على فهم الأبطال، وربما حتى الشعور بالتعاطف معهم. علاوة على ذلك يتم تقديم كل من الضحية والقاتل بطريقة بعيدة عن التعاطف، بحيث يصبح من الصعب الانحياز إلى أحد الجانبين. والذي ساعد في ذلك الأسلوب القريب من الفيلم الوثائقي.
فقط المحادثة بين ياتسك و بيوتر قبل الإعدام مباشرة تلمح إلى الظروف وراء فعلته؛ يتحدث بشكل مؤثر عن أخته الميتة، ومن الواضح أنه ندم على ما فعله. خلال مشهد المحادثة الطويل هذا، قد يشعر المتفرج ببعض التعاطف معه. ثم يتم قطع هذه المحادثة مع وصول الحراس لأخذ ياتسك ليتم إعدامه. نشعر أن المحادثة كانت قصيرة جداً بالمقارنة مع مشاهد القتل الطويلة التي أجبرت المتفرج على إدراك فظاعة ما يجري.
في هذه الحلقة المطولة اعتمد كيشلوفسكي على الثلاث أعمدة في البناء الدرامي التي ترابطت بشكل أو بآخر، فلابد من وجود ضحية عند وجود مجرم وأيضاً لابد من أن يكون هناك منظومة قانونية تحكم فيما بين المجرم والضحية. كيشلوفسكي مهد منذ البداية من خلال المحامي "بيوتر" وطريقة تقديمه، فهو واضح بأنه شخص مثابر ومجتهد ويبحث عن الحقيقة، بالمقابل شخصية المجرم الذي عنده دوافع فرويدية، ودوافع إنسانية أولية، شخص غير مكترث لكن عنده مشاعر، فهو عنده خلل نفسي. شخصية الضحية لديها قواسم مشتركة مع المجرم ولكن أقل حدة، هو بالنهاية جزء من المجتمع، ولكن الاختلاف هي التركيبة السيكولوجية، من خلال الأزمات التي تحدث مع الفرد في طفولته وتؤثر عليه عندما يكبر (موت أخت ياتسك).
تلك الانعكاسات التي تعصف داخل الشخصية هي التي تقوم بتوجيهه للقيام بهذه الأفعال، التي هي غير محسوبة، ياتسك قام بخنق سائق التاكسي، لم يمت السائق، فتركه ياتسك، ثم أخذ قرار بقتله. إن شخصية ياتسك هشة نفسياً، وتردده أثناء عملية قتل سائق التاكسي، وعدم إدراكه للفعل الذي يقوم به، وكيشلوفسكي ركز على ذلك عدة مرات حتى عندما كان داخل الزنزانة مع المحامي، شعوره بهذا الأسى والندم والحسرة ينبع من حقيقته الشخصية، فالمحامي شعر ببراءة هذه الضحية، تعاطف معه، وكره القدر الذي تسبب في تغيير تركيبة هذا الشخص. وهذا لاينفي بالنهاية وجود ضحية وسط منظومة (السجن، السجانين، القاضي)، وعند كيشلوفسكي ذكاء محكم بالتعامل مع العناصر داخل الإطار (الموضوع، الشخصية) وإحالة الموضوع على شكل منظومة أوسع (بولندا).
يركز كيشلوفسكي أيضاً على التفاصيل (الحكم، التأكد، الستارة، الحبل) وأيضاً هناك تعاطي مع سذاجة المنظومة، وكيفية تعاطيها مع الحكم كما أنه وضع جميع الأطراف التي يدين بها المنظومة من خلال (رجل الدين، القاضي، الأمن) ، وضعهم في إطار واحد مقارنة بالمجرم.
يوجد إحالة لشخصية الضحية لأن تكون مجرمة، والعكس صحيح، كيشلوفسكي في (فيلم قصير عن القتل) لم يكن هدفه تجريم ياتسك بل تجريم المنظومة نفسها، لم يلم الشخصية ياتسك بل جعل المشاهد يتعاطف معه.
يصف كيشلوفسكي فيلمه على النحو التالي: "فيلم قصير عن القتل هو قصة صبي صغير يقتل سائق سيارة أجرة ثم يقتل القانون الصبي. في الواقع، ليس هناك الكثير لنقوله عن الحبكة، لأننا لا نعرف لماذا يقتل الصبي سائق التاكسي. نعرف الأسباب التي تدفع المجتمع لقتل الصبي، لكننا لا نعرف الأسباب البشرية الحقيقية ولن نعرف أبداً"[8]. لقد أراد كيشلوفسكي التأكيد على أن العقوبة هي في الحقيقة مجرد انتقام، لا أحد ينتصر، أراد فقط أن يظهر حماقة العنف بجميع أشكاله.
إن العلاقة بين عمليتي القتل هي علاقة سببية، ويتم تكوين انطباع بأن القتل الثاني يتبع القتل الأول تلقائياً؛ ينبع هذا الانطباع إلى حد كبير من عدم اهتمام الفيلم بالدوافع وراء عمليات القتل، حيث ينتهي التسلسل الأول بعد القتل مباشرة، وتبدأ الاستعدادات للإعدام بعد فترة قصيرة فقط. لقد تم تنظيم الوقت في سرد قصة الفيلم حول الموضوع وليس حول أفعال الشخصيات، وقام كيشلوفسكي ببناء السرد بشكل متعمد بحيث لا يوجد وقت كافٍ لشرح الدوافع وراء أفعال وسلوك الشخصيات. واختصر المحادثة النهائية التي كانت قد أوضحت بعض الغموض. في التسلسل الأول يشير المونتاج المتوازي إلى أن العلاقات الزمانية والمكانية بين الشخصيات الرئيسية مهمة. هذا يجعل المتفرج يتساءل عما إذا كان ما حدث مقصوداً أن يحدث أم أنه مجرد حدث عشوائي.
في الوصية السادسة التركيب الدرامي كان من خلال العاشق المراهق (توميك)، الامرأة (ماجدة)، وبينهما العرابة، واكتشاف الإنسان لذاته من خلال الوحدة، واكتشاف مشاعره مرة أخرى من خلال الفقد.
يبدأ التحول في أحداث الحلقة السادسة عندما يجلب "توميك" الحليب لشقة "ماجدة" ووجهه يغطيه آثار الكدمات بسبب الضرب الذي تعرض له من قبل صديقها في الليلة السابقة. تقبل "ماجدة" بالذهاب معه في موعد بسبب الشفقة، وفي وقت لاحق يذهب "توميك" معها إلى شقتها، وبعد أن استحمت وارتدت رداء الحمام ، يقدم لها هدية صغيرة ، لكنها ترد بأنها ليست شخصاً جيداً ولا تستحق الهدايا. تنحني أمامه وتمسك يديه وتضعها على فخذيها، ثم يتوضح بأن "توميك" قد وصل إلى النشوة الجنسية. تقول ماجدة ، "الحب ... هذا كل ما في الأمر" ثم يهرع توميك للخروج من شقتها محرجاً ومستاءاً. يعود "توميك" إلى المنزل ويقوم بقطع شرايينه.
تشعر ماجدة بالذنب وتحاول التواصل معه من نافذتها مشيرةً إليه للاتصال بها وترفع لافتة كتب عليها "عد ... أنا آسفة"، لكن لا يوجد رد. وبعد شعورها بالندم والذنب والفقدان والانتظار، تتحول القصة من زاوية الشاب "توميك" إلى زاوية "ماجدة".
في وقت لاحق، تأتي ماجدة إلى شقته لإعادة المعطف الذي تركه عندها، وتعلم من عرابته أنه حاول الانتحار وتم نقله إلى المستشفى.
الذروة هنا كانت عندما قال لها أنه يحبها عندما كان يوصل الحليب لمنزلها، ومن ثم هروبه. ورسالة كيشلوفسكي واضحة في الحلقة السادسة أو فيلم قصير عن الحب، وهي لايوجد إنسان يستطيع أن يحب بمفرده وهذا ما يعزز فكرة الوحدة، قصة الحب موجودة ولكن الفيلم عن الوحدة. والمراهق حاول الانتحار من أجل الحب، وأمه العرابة كان من الممكن أن تخسره لأنه وصل به الأمر إلى خسارة حياته، وكذلك بالنسبة "لماجدة" الدافع الذي جعلها أن تعود وتعيد سترته بسبب شعور البراءة الموجود عند "توميك" والذي أصبح يتملكها، أصبح نوع من العوز بالنسبة لها، وهي تعاملت معه بشكل قاسي، وفكرة المشاعر بالنسبة لها هي شيء جديد، فهي اعتادت على شكل معين من أشكال الحب من خلال الجنس، في نفس الوقت هي تعي تماماً أنه ليس هذا هو الحب. هناك إعادة لاكتشاف الحب عندها من خلال البراءة التي عند الشاب "توميك".
أيضاً الجانب المهم في الحلقة السادسة أو (فيلم قصير عن الحب) هو الوحدة المفهوم الذي يحاصر الإنسان المعاصر ليس في بولندا وأوروبا فقط بل العالم كله.
بالنسبة للأم العرابة فهي وجود "توميك" في حياتها مهم جداً لأنها لاتريد أن تكون وحيدة، كان هذا واضح عندما سألت "توميك" عن وجود شخص في حياته، فمثلما لاأحد يتكلم عن تفاصيل الحب، لاأحد يتكلم عن تفاصيل الوحدة.
في الوصية السابعة عمل كيشلوفسكي على التركيب الدرامي من خلال ثلاثة شخصيات من خلال الجدة "إيفا" والأم "مايكا وبينهما الطفلة "أنيا"
ركّزت الحلقة على فكرة المجتمع المفكك، وتعدد مسارات الحكاية بين الطفلة "أنيا" وبين الأم والأب (والد أنيا) وبين الأب (الجد) السلبي وبين مشاعر الأم (الجدة) "إيفا" المختلطة بين الأنانية والأمومة تجاه حفيدتها التي اعتبرتها ابنتها أيضاً، وأيضاً المشاعر المختلطة بين فكرة الأمومة وبين فكرة الأمومة المستلبة، فالطفلة لم تستطع مواجهة حقيقة أن "مايكا" أمها وليست أختها.
الحدث أثر على الأم (الجدة) والمشاعر التي تم تحميلها لها، فهي أصبحت حريصة أن تجد حفيدتها أكثر من ابنتها "مايكا"، ومعظم الوقت في هذه الحلقة نطارد الحدث ضمن فترة قصيرة جداً (ليلة واحدة) فهنا نركز على الحدث وعلى نتاج الحدث الذي أثر على جميع الشخصيات، ورأينا أن الأب أصبح صانع للدمى نتيجة مشاعر الأبوة.
الأم (الجدة) مصدر العاطفة مسيطر عندها بدليل المشهد الأخير عندما وجدتها في محطة القطار، فالحفيدة ركضت باتجاه جدتها لأنها تعتبرها أمها، أما (مايكا) هربت لأن البقاء في هذا الواقع شيء صعب جداً.
تختلف الحلقة التاسعة في التركيب الدرامي، هنا اعتمد كيشلوفسكي منذ بداية الحلقة على المونتاج المتوازي بين شخصيتين فقط (الزوج والزوجة).
الحلقة التاسعة هي محاولة لمنع الزواج من الانهيار، يفتتح الفيلم بأزمة الزوج رومان والذي أصبح لديه عجز جنسي، ثم يظهر الزوجين في الفراش بعد عودة رومان من رحلة تأكد خلالها من تشخيص عجزه الجنسي. يشجع رومان زوجته على إيجاد حبيب لكنها ترفض، ولم تقبل بسبب حبها له، وآثرت على البقاء، ولكن الكلام شيء ومعايشة هذا النمط من الحياة شيء آخر، وخصوصاً بأن فكرة النزوة موجودة، وهانكا بالفعل وقعت فريسةً للنزوة، وكذلك الأمر بالنسبة لرومان كان من الممكن أن يقع تحت وطأة النزوة ولكن الزوج رومان عنده صدق خاص وأيضاً مدرك لفكرة الفارق الزمني بينه وبين مريضته، بالإضافة إلى المعاناة التي يعيشها داخلياً، تم التأكيد على ذلك في مشهد ركوبه العجلة وسيره على طريق منعجرة ووعرة من أجل إثارة الألم ومن أجل أن يعكس المعاناة الداخلية للخارج. عندما يكتشف رومان أنها على علاقة بالفعل، يشعر بالغيرة لدرجة أنه يبدأ بالتجسس على زوجته، وأخيراً وبسبب سوء فهم ، يحاول الانتحار.
القصة أبرزت اشكاليات ممكن أن تخلق نقطة فارقة في العلاقة الزوجية، وكانت متمثلة بأن الزوج لديه عجز جنسي، فهو صارح زوجته بهذه الحقيقة، وطلب منها أن ينفصلان. الفكرة هنا إلى أي مدى يستطيع الإنسان أن يغفر، وهذا الخطأ لاينتج إلا من أجل دوافع ممكن أن تكون أكبر من تحمل الإنسان.
الشهوة شيء أكبر من أن يستوعبها وعي الإنسان، وفكرة اللذة والشهوة تفوق القدرة البشرية، وهذا الذي يدفع الشخصية بأن تقوم بالخطأ، وهذا الخطأ غير متعمد لأنه قائم على نزوة قد يعود بعدها الإنسان إلى رشده وصوابه وحتى في اللحظة نفسها يشعر بالندم أو الذنب، وكيشلوفسكي أكد على فكرة الغفران من خلال الخيانة، نتيجة ظروف، وفكرة الخيانة لاتتم من أجل الخيانة فقط.
كيشلوفسكي وضّح بصرياً منذ البداية ما تمر به الشخصيات حتى عندما كان رومان في السيارة ويفكر بما تفعله زوجته، ووجود الشك بحد ذاته كفكرة في العلاقة الزوجية هو أول مفتاح لكي يحدث شرخ في العلاقة، حتى ولو كان على حق، فأساس العلاقة لم يكن كذلك، بل كان الاستمرار بها، وتحمل الحقائق. أنهى كيشلوفسكي الحلقة بتصالح بين الشخصيتين ومحاولة لتجاوز الموقف الذي حصل.
الزوجة هانكا التي قامت بخطيئة لاتستطيع أن تصارح نفسها مع الحقيقة، فهي تحب زوجها بالفعل، ولكن الحياة مع فكرة العجز الجنسي قاسية جداً، فالحب ليس عبارة عن ممارسة للجنس فقط ولكن هو مكمل له، أما الزوج رومان لم ينجر وراء غرائزه مثلما فعلت الزوجة.
هانكا واجهت زوجها في المكان الذي قامت به بهذا الفعل، ورفضت أن تستمر بهذه العلاقة العابرة مع الشاب، وواجهت زوجها رومان عندما اكتشفت أنه كان يخبئ نفسه في الخزانة، مع أن هذا الموقف لصالحها، وهذا الفعل يتطلب الشجاعة، وأيضاً الموقف الذي قام به الزوج رومان، أثناء جلوسه على الدرج وهو يعرف أن زوجته تخونه داخل المنزل، كان يخفي نفسه عنها، وعندما خرج الشاب الذي تخونه معه من المنزل، لم يظهر نفسه وبقي جالساً على الدرج، هذا الموقف هو شجاعة منه على التسامح وتجاوز الظرف. كيشلوفسكي جعلنا نتعاطف مع الزوجة هانكا مع أنها تقوم بفعل غير أخلاقي، فهي قامت بخيانة زوجها، وبنفس الوقت جعلنا نتعاطف مع زوج قبل بخيانة زوجته، ورسالة كيشلوفسكي واضحة، إذا استطعت بأن تغفر للشخص الذي أمامك فأنت قادر على الاستمرار مهما كانت الظروف، فالحياة قائمة على فكرة الإنسان الذي يساند ولديه الشجاعة بأن يغفر وأن يستمر رغم الظروف التي يمر بها.
في الحلقة الثامنة أسس كيشلوفسكي منذ البداية لفكرة الطبيعة من خلال اللقطات البسيطة جداً، بعيداً عن الأفكار وبعيداً عن صخب الأفكار الكبيرة بحد ذاتها، وبعيداً عما يخلق مميزات أبيض عن أسود، ومسيحي عن يهودي أياً كانت طبيعة وجود الإنسان كوجود، وأكدّ عليها في المشهد الذي حدث بين لاعب الأكروبات الذي يتمتع بليونة عالية جداً كشاب، وبين قساوة جسد الأستاذة "زوفيا" ومامر به، فهو لم يعد مرناً.
هناك دلالة على الإصرار والمداومة على استقامة اللوحة المعلقة على الحائط، فهي تعكس اللوحة الزمنية التي تم رصدها من خلال قصة الاستاذة "زوفيا"، والفتاة اليهودية "إلجبييتا" التي تم انقاذها في الحرب.
شخصية إلجبييتا عبّرت عن بولندا ومامرت به من حروب، عبّر كيشلوفسكي عن ذلك بشكل خفي وبنفس الوقت مؤثر، واستطاع من خلالها ومن خلال باقي الشخصيات أن ينقل مشاعر الحرب، مع أن المرات التي عبّرت فيها شخصياته عنها كانت معدودة جداً.
كانت قاعة المحاضرة أشبه بقاعة المحكمة وذلك من خلال مواجهة إلجبييتا للأستاذة "زوفيا" التي كانت أشبه بالمحاكمة، و سردها لقصتها التي حصلت في الماضي، والآراء التي عبّر عنها الطلاب أثناء هذه المواجهة، فأحد الطلاب كان رأيه هو الخوف من معصية الرب في إبقاء يهودي في منزل مسيحي كاثوليكي.
ركز كيشلوفسكي أيضاً على المساحات المظلمة في الليل، الشارع، الطريق، داخل السيارة، البهو والذي كان أشبه بالنفق الذي ذهبت من خلاله "إلجبييتا" إلى الماضي (المكان الذي تربت فيه).
يعتمد كيشلوفسكي في الوصايا العشر على اختياره للأماكن الحقيقة المعاصرة والخانقة والتي تشبه علب الكبريت، والنوافذ هي الأداة التي تربطها بالعالم الخارجي، وهناك أيضاً تأكيد على فكرة تشابه الشخصيات بالأماكن التي تسكن فيها، وتعزز تركيبة الشخصيات والحالة النفسية التي تعيشها، فعند الشاب "توميك" كانت بارزة أكثر، لكن عند "ماجدة" مختلفة قليلاً، فهي منفتحة أكثر بحكم أنها فنانة وتم التأكيد على ذلك بنوافذ شقتها المفتوحة باستمرار، وهي أيضاً امرأة متعددة العلاقات وهذا الذي دفعها من أجل أن تعمل محاكمة أخلاقية عندما اكتشفت أن الشاب "توميك" يراقبها، فشعرت بنوع من الإهانة.
إن هذه الأماكن المغلقة والمتراصة فوق بعضها البعض، لاتلتقي إلا بشكل غير مألوف على الرغم من تجاورها لبعضها البعض، ففي الحلقة السادسة التقت من خلال التنصت من خلال مراقبة "توميك" ل"ماجدة"، أما في الحلقة الثانية على الرغم من أن الطبيب هو جار الزوجة "دوروتا" في نفس البناء إلا أن الرابط بينهما كان الموسيقى.
في الحلقة السادسة كان للحمّام دور مهم كفكرة لجوء الشخصية لهذا المكان البارد، وحالة الفعل الدموي (الانتحار)، حالة اظهار الدم بلونه الداكن وانتشاره.
يبدأ كيشلوفسكي الحلقة السابعة بلقطات للمباني بالتزامن مع صوت صراخ الطفلة وكأن المباني هي التي تصرخ، دلالة شعرية تعبَر عن المجتمع البولندي وعلى التحول الذي حصل فيه، وكيف أن هذا المجتمع أصبح أنانياً، فجميع الشخصيات تلتقي مع الطفلة في أزمة ولكن لم يقف أحد معها، حتى أن العاملة في محطة القطار تعاطفت مع الفتاة أكثر من باقي الشخصيات، فهي قدمت لها ولأمها وسائل تدفئة ومكان لكي تستريح به أثناء انتظار قدوم الرحلة القادمة.
في الحلقة التاسعة لم يكن هناك تأكيد على أمور أخرى بقدر ماكان تأكيد على الهواجس الفكرية التي تمر بها الشخصيات، لم يؤكد كيشلوفسكي على الزمن أو على المكان، والسمة السينمائية البارزة في هذه الحلقة هو الرصد والقرب من الشخصيات، وكان واضح لتوظيفة للمونتاج المتوازي بين خط الزوجة هانكا وخط الزوج رومان والانتقال فيما بينهم لإبراز التباين من خلال هذا التزامن، ومن خلال الأفكار التي تعصف بها والأفكار التي تعصف به، وبين الشيء الذي حصل معه والشيء الذي حصل معها.
وظّف كيشلوفسكي من خلال الأسلوب ليبيّن المسافة الذهنية بين الزوجين، حيث تبرز في هذه الحلقة ثلاثة جوانب من الميزانسين، من خلال استخدام الظلال العميقة ، وتحويل التركيز إلى داخل الإطار، واستخدام عمق المجال.
في المشهد أثناء عودة رومان إلى المنزل والمطر يهطل بغزارة، تقابله زوجته هانكا في الطابق السفلي ويدخلان المصعد سوياً، في المساحة الضيقة للمصعد يقفان بالقرب من بعضهما ، لكن الظل يخلق فجوة بينهما، يأتي ضوء من الخارج ليدخل المصعد، لينعكس على أحدهما فقط، مرة على رومان ومرة على هانكا. يقفان مقابل بعضهما وبينهما الكثير من الأشياء الغير معلنة التي لا يتم الكشف عنها حتى في أكثر الأماكن حميمية (السرير)، هنا يتحدثان عن الوضع، ولكن الظل يبقى بينهم.
يتم استخدام الظلال هنا كنوع من المونتاج الداخلي؛ لتقسيم المساحة بينهما إلى قسمين، مساحة لرومان ومساحة لهانكا. طوال الفيلم تكون هانكا مضاءة بشكل جيد، بينما يظهر رومان وسط تباينات قوية بين الضوء والظل. الظلال يعبر عن يأس رومان المتزايد، على النقيض من ذلك لا تعرف هانكا بعد أن رومان على علم بعلاقتها. ينعكس اغترابهم أيضاً في استخدام عمق المجال، يصور كيشلوفسكي الحركة في عدة مشاهد بطريقة تحقق أقصى استفادة من الأبعاد الثلاثة للمساحة.
في أحد المشاهد يتلقى رومان مكالمة هاتفية من شخص يشتبه في أنه عشيق زوجته، وعندما تعود هانكا إلى المنزل، يفضل عدم مواجهتها، يجلس في المقدمة وظهره لهانكا التي تدخل في الخلفية، وعندما يتحدثان ، ينتقل التركيز بين المقدمة والخلفية، حيث يتم الحفاظ على المسافة الذهنية فيما بينهما.
تظهر مثل هذه المستويات في العديد من المشاهد التي يتجسس فيها رومان على زوجته، يظهر ذلك في مشهد تجسس رومان على زوجته من خلال الهاتف حيث يظهر في المقدمة، بينما تتحدث هانكا في غرفة أخرى في الخلفية، أيضاً في مشهد اختباء رومان خلف الحائط يظهر في المقدمة بينما تظهر هانكا في الخلفية وهي تودّع عشيقها على باب الشقة التي يجتمعان بها، ينتهي هذا الاستخدام بمشهد يختبئ فيه رومان داخل الخزانة، في هذه المرة ترى هانكا عشيقها فقط لتخبره أن علاقتهما قد انتهت، تسمح الشقوق الموجودة في باب الخزانة لرومان بالاستماع إلى محادثتهما، وعندما تبقى هانكا بمفردها، تدرك بأن رومان يختبئ في الخزانة. في جميع هذه المشاهد نرى من وجهة نظر رومان.
أيضاً تظهر المرايا في هذه الحلقة بشكل بارز جداً أكثر من أي فيلم من أفلام كيشلوفسكي. صور المرآة هي أحد الدوافع الرئيسية في أفلام كيشلوفسكي، حيث تنعكس الصور ليس فقط في المرآة الفعلية، ولكن على جميع الأسطح من جميع الأنواع.
بعدما رأى رومان زوجته وهي تستقبل عشيقها (في المشهد الذي يختبىء فيه على الدرج) ينتظر زوجته لتخرج، ثم يعود إلى المنزل ويدخل الحمام المكسو جدرانه بالمرايا حيث يريد أن يبقى بمفرده ، وعندما تدخل زوجته هانكا وتريد أن تلمسه، يشعر بأنه مكشوف وسط جميع المرايا التي تعيد إنتاج صورته، يبدو الأمر كما لو كان يتساءل عما إذا ماكان يمكن رؤية عجزه من الخارج.
على عكس هانكا يظهر رومان وهو ينظر في المرآة عدة مرات خلال الفيلم، في لحظات اليأس ينعكس وجهه على سطح الطاولة، وفي مناسبة أخرى في نوافذ سيارته.
عند كيشلوفسكي هناك حالة تفاعل بين شريط الصوت وشريط الصورة من دون أن ندرك أنهما جزئين منفصلين عن بعضهما، والموسيقى عنده تبدو وكأنها ملاصقة للصورة أو جزء منها، واستخدامها غير قائم على إثارة عاطفية، بل هي تتفاعل مع الصورة وتصبح جزءاً منها.
"يشترك الموسيقي في الفيلم من بداية التصوير. وعليه لا ينبع الهامه من النسخة المؤلفة تماماً، بل يساهم في عملية الخلق بجانب المخرج من البداية"[9].
هناك نوع من الموسيقى وجودها يكون بارز لإثارة مشاعر معينة، وممكن أن تكون صاخبة أكثر من المحتوى البصري، وأيضاً هناك تفاعل بطبيعة الأصوات، وبطبيعة الإيقاع المستخدم في الأصوات، وطبيعة الآلات المستخدمة.
يعتمد كيشلوفسكي أكثر على موسيقى العزف المنفرد واستخدامه لآلة واحدة، وممكن أن يكون ذلك طوال الفيلم مثل استخدام آلة الجيتار في الحلقة السادسة (فيلم قصير عن الحب) للتأكيد على حالة الوحدة. وصوت الساعة كان موجود أيضاً في معظم حلقات الوصايا العشر للتأكيد على حالة الوحدة التي يعيشها الإنسان المعاصر.
الموسيقى في الحلقة الثانية كان لها تأثيراً كبيراً في السرد، فهي ساعدت على التوقع في تعافي "أندريه"، في البداية استخدمت للتأكيد على حالة الحزن الموجودة عند "دوروتا" و "أندريه". ومع تعزيزها من خلال لغة بصرية لتوجيه توقع المشاهد عن طريق استخدام الإضاءة، وتعبيرات الوجه، وحركة الكاميرا، أعطت إحساساً بالاستمرارية الزمانية والمكانية.
في الحلقة التاسعة كان دور الموسيقى واضح فهي ساعدت في إبراز شيء في روح الزوج، وكأنها أثارت شيء روحاني مرتبط بالغفران، فالتيمة الموسيقية كانت مرتبطة بشكل أو بآخر بالتسامح والغفران، وأحاطته وجدانياً بهذه الفكرة، وكأن في داخلها صوت صارخ يستغيث.
النتائج:
توصلت الدراسة إلى أن سلسلة الوصايا العشر (1988) تشكّل ذروة اكتمال المشروع الفني والفكري لكريستوف كيشلوفسكي، إذ استطاع من خلالها أن يبلور رؤية سينمائية متكاملة تجمع بين البنية الدرامية المحكمة والبعد الرمزي والفلسفي العميق. وقد أظهرت السلسلة أن القضايا الأخلاقية والوجودية الكبرى يمكن أن تُعالج من خلال قصص بسيطة وشخصيات عادية، الأمر الذي منحها بعداً واقعياً يلامس حياة الناس اليومية، وفي الوقت نفسه فتحها على آفاق إنسانية كونية.
كما أبرزت النتائج أن السياق الاجتماعي والسياسي الذي عاشته بولندا في ثمانينيات القرن العشرين انعكس بوضوح في تفاصيل الحلقات، حيث شكّلت حالة القمع السياسي والتوتر الاجتماعي خلفية غير مباشرة للأحداث. وقدّم كيشلوفسكي شخصيات مأزومة تعيش صراعًا دائمًا بين الحرية والقدر، وبين الالتزام الأخلاقي ومطالب الواقع، ليجعل من السلسلة مرآة صادقة لمرحلة تاريخية محددة، وفي الوقت نفسه نصاً مفتوحاً على أسئلة تتجاوز الزمان والمكان.
أما من الناحية الفنية، فقد كشفت الدراسة عن اعتماد المخرج على لغة بصرية متميزة ساهمت في تكثيف البعد النفسي والوجداني للأحداث، من خلال توظيف الإضاءة القاتمة والظلال المعبرة، واستخدام زوايا كاميرا غير مألوفة لإبراز التناقضات الداخلية للشخصيات، إلى جانب إيقاع بصري بطيء يتيح للمشاهد فرصة التأمل والتفاعل مع اللحظة الدرامية. كما جاءت الموسيقى التصويرية التي وضعها زبينيف بريزنر لتضيف بعداً روحياً وميتافيزيقياً يعمّق من الأثر العاطفي للسلسلة.
وبذلك، أثبتت النتائج أن الوصايا العشر ليست مجرد معالجة سينمائية لوصايا دينية تقليدية، بل هي مشروع فني وفكري استطاع أن يحوّل المبادئ الأخلاقية إلى صور معاصرة تتناول قضايا الغفران، المسؤولية، الوحدة، والمعنى الإنساني العميق. لقد ساهم هذا العمل في ترسيخ مكانة السينما البولندية داخل المشهد الأوروبي والعالمي، وقدم نموذجًا يجمع بين الواقعية النقدية والرؤية الفلسفية، مما يجعل تجربة كيشلوفسكي علامة فارقة في تاريخ الفن السابع.
التوصيات:
[1] Stok, D. [ed] (1995) Kieslowski on Kieslowski. London: Faber and Faber.P173-174
[2] Pockett, Susan, How Long Is "Now"? Phenomenology and the Specious Present, Phenomenology and the Cognitive Sciences, 2003, P56
[3] برنارد ف.ديك ، تشريح الفيلم ، ترجمة وتقديم: مصطفى محرم ، المركز القومي للترجمة ، الطبعة الأولى ، القاهرة 2015 ، ص 28
[4] علاء عبد العزيز السيّد ، الفيلم بين اللغة والنص – مقاربة منهجية في انتاج المعنى والدلالة السينمائية ، سلسلة الفن السابع 145 ، منشورات وزارة الثقافة ، المؤسسة العامة للسينما ، دمشق 2008 ، ص 147 - 148
* الكمبوت compote: هو نوع من الحلوى الفرنسية ، وهو عبارة عن قطع من الفاكهة في شراب السكر.
[5] علي بدرخان ، الإخراج و المونتاج – أساسيات وحرفيات ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 2020 ، ص 278
[6] Anttila, Eila, [A Thought as a Starting Point and a Goal] Filmihullu, 1989 P75
[7] Anttila, Eila, [A Thought as a Starting Point and a Goal] Filmihullu, 1989 P74
[8] Stok, D. [ed] (1995) Kieslowski on Kieslowski. London: Faber and Faber.P189
[9] أندريه فايدا ، الرؤية المزدوجة ، ترجمة صلاح صلاح ، سلسلة الفن السابع 8 ، منشورات وزارة الثقافة ، المؤسسة العامة للسينما ، دمشق 1993 ، ص122
ثبت المراجع:
أولاً: مراجع باللغة العربية:
ثانياً: مراجع أجنبية: