العواقب الوخيمة لانتهاک حرمة النصوص

Public Titles

Author

Research Director and professor- University of Florence “Minima Dantesca”

Main Subjects


 

جرت العادة، عندما نتناول يالحديث العلاقة بين دانتي أليجييري والإسلام ، ترجع ذاکرتنا فقط إلي النشيد 28 من الأنشودة الأولي من الکوميديا الإلاهية ، أي "الجحيم". متناسين أن علاقة دانتي بالإسلام لا تقتصر علي  ما کتبه في تلک الأنشودة التي شکلت موضوع دراسة بدأتها عام 1989 وأتممتها ونشرتها عام 2015 ، ثم أضفت إلييها ما نشر في مجلة "عالم الکتاب" (العدد يونيو-يوليو 2021) تحت عنوان "مجرد خواطر" أشرت فيها إلي بعض ما کتب دانتي عن الإسلام والمسلمين سواء في "الجحيم"، الأنشودة الرابعة، أو في الکونفيفيو (الجزء الرابع، XI.14).  وقد اخترت من الدراسة التي نشرتها عام 2015 ما يتلاءم مع المناسبة ويتناسب مع مکان الاحتفالية. أي مشکلة الترجمة. فسأحدثکم اليوم عن "العواقب الوخيمة لانتهاک حرمة النصوص" من واقع أحسن وأدق ترجمة ل "الکوميديا الإلاهية"، ترجمة الدکتور حسن عثمان.

استطاع أستاذي العظيم الدکتور حسن عثمان أن يشوه الأنشودة الثامنة والعشرين من أنشودة "الجحيم"، أولى الأناشيد الثلاثة ل "الکوميديا الإلاهية" لدانتي اليجييري، بعد أن قضي معظم حياته في ترجمة ملحمة الشاعر الفلورنسي الخالدة من اللغة الإيطالية.

يخصص دانتي، کما هو معروف، الأنشودة الثامنة والعشرين لألوان العذاب التي يلقاها محدثي الشقاق ومثيري الفتنة، وضمن الشخصيات التي خصها بالذکر في الحلقة التاسعة من "جحيمه" يضع رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم مع رابع الخلفاء وابن عمه وزوج ابنته عليّ رضي الله عنه. کان دانتي يعرف عن الإسلام أکثر مما نتصور، بل، کما استطعت أن أثبت بما لا شک فيه في الدراسة[1] التي خصصتها  لوجود محمد في الحلقة التاسعة من "الجحيم" التي نشرتها عام 2015، حيث  بينت بکل وضوح، معتمدا في بحثي على الوثائق اللاتينية والعربية، أن معلومات الشاعر الفلورنسي عن تاريخنا وثقافتنا کانت ربما تفوق معرفة الکثير من دارسي الإسلام من المسلمين والعرب أنفسهم.

يصور دانتي رسول الإسلام، دون أن يفصح عن هويته، في أبشع وأقبح ما صور في "الکوميديا": بشع المنظر، قبيح المرأى، لا تکاد تقع عليه العين إلا انصرفت عنه مشمئزة وانحرفت عنه نافرة. يشبه دانتي الرسول ببرميل محطم القاع والأضلاع، شق من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه، تتدلى أحشاؤه بين ساقيه، ويُخرِج الکيس الکريه ما يؤکل برازا ....  ثم يعطي الکلمة للرسول فيفتح النبي صدره ويفصح عن هويته قائلا: "أنظر کيف أتمزق، أنظر  کيف شُلّت حرکة محمد! يمضي أمامي عليّ باکيا، مشطور الوجه من ذقنه إلى أعلى جبهته ...". أمام هذا المنظر البشع الذي يرفضه، ليس فقط کل من آمن بالله ورسوله، بل کل من يتحلى بشيء من الخلق والإحترام للآخرين، يتوقف حسن عثمان رافضا أن يترجم هذه الأبيات السافرة التي خصصها عامدا متعمدا دانتي للرسول صلى الله عليه وسلم مبررا رفضه بالکلمات التالية:

"لقد حذفت من هذه الأنشودة أبياتا وجدتها غير جديرة بالترجمة، وردت عن النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد أخطأ دانتي في ذلک خطأ جسيما، تأثر فيه بما کان سائدا في عصره، بين العامة أو في المؤلفات، عن الرسول العظيم، بحيث لم يستطع أهل الغرب وقتئذ تقدير رسالة الإسلام الحقة وفهم حکمه الإلاهية. على أن هذا لم يمنع أهل العصر - ومن بينهم دانتي - من تقدير الحضارة الإسلامية والتأثر بثمراتها، التي کانت عنصرا فعالا في خروج العالم الغربي من العصور الوسطى إلى العصر الحديث" (الجحيم، ص 371).

حذف أستاذي من ترجمته 42 بيتا (من 22 إلى 63) من أنشودة طولها 142 بيتا، إذ لم يکتف بحذف مشهد الرسول وعليّ بل حجب عن القارئ وألغى وجود شخصية من أهم شخصيات القرن الثالث عشر الذي کان لا يزال حيا أثناء حوار دانتي والرسول. نعني الراهب دولشينو تورنيللي من نوفارا (Dolcino Tornielli da Novara) تليمذ جيراردو سيجاريللي من بارما (Gerardo Segarelli da Parma) الذي کان قد أسس عام 1260 جماعة أو طائفة أطلق عليها "الرسل" أو "الإخوة الرسل". صال وجال دولشينو يبشر ويدّعي النبوة حتى أعجبت به فتاة جميلة وغنية تدعى مارجريتا (Margherita) من ترنتو (Trento) اتخذها الراهب عشيقة له. وعندما طالب البابا کلمنتى الخامس (Clemente V) بالقبض عليه والقضاء على أمثاله من الدجالين، هرب عام 1305 أو 1306 مع خمسة آلاف من أتباعه فوق جبل زيبيللو (Zebello) في ضواحي فيرشللي (Vercelli)، وکاد حصار قوات البابا يکلل بالفشل لولا أن المجاعة کانت قد أهلکت دولشينو وأتباعه فاستسلموا يوم 26 مارس 1307 ، وفي يوم 2 يونية من نفس السنة أُحْرِق دولشينو حيا هو وعشيقته مارجريتا في أکبر ميادين نوفارا Novara)).

حذف حسن عثمان الإشارة إلى دولشينو لأنه رفض مقارنة نبينا الکريم بمدعي نبوة مثل راهب نوفارا.

لکن کان هذا هو "البورترية" الذي رسمه الغرب لرسولنا الکريم[2] منذ القرن العاشر الميلادي في أسطورة تقول أن محمدا کان کاردينالا ذا قوة ونفوذ، وکان يطمع في الجلوس على الکرسي المقدس ويتولى البابوية، إلا أن البابا کان قد أرسله في مهمة، يقال في شمال أفريقيا، وبعد عودته إلى روما وجد الوضع في الفاتيکان متغيرا لأن البابا کان قد توفى أثناء غيابه وتعجل المجلس البابوي في انتخاب بابا جديد. فتحول غضبه واستياءه إلى ثورة  ورغبة في الانتقام من الکنيسة والمجلس البابوي، فأعلن على الملأ نبوته وبدأ يبشر بدينه الجديد، متجولا عبر القارات في هجوم سافر على الديانة المسيحية.

هذا هو "البورترية"  الذي نشأ على رؤيته دانتي وأجياله - الکاردينال المنشق الثائر على الکنيسة -، وربما لا تزال هي الصورة العالقة بأذهان الکثير من غير المسلمين في أرجاء العالم حتى يومنا هذا.

لم يکن اهتمام حسن عثمان تاريخيا ولا ثقافيا بقدر ما کان غيورا على الدين الإسلامي وصورة نبيه، لذا نسي (أو تناسى) رسالته الأدبية ومهمته کباحث، ليس فقط کمترجم، ولم يفکر اطلاقا في التأمل فيما کتب دانتي عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولماذا وصفه بأنه شق من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه؟ وهل جاء دانتي بهذه الکلمات وهذه الصورة من بنات أفکاره، أم ترجع إلى مصادر آخرى؟ ولماذا وصف عليّ (رضي الله عنه) بأنه مشطور الوجه من ذقنه إلى أعلى جبهته؟ لم يفکر إطلاقا في قسوة الأسلوب وبشاعة المنطر، ولماذا خصص دانتي لنبي الإسلام مثل هذه الصورة الأکثر قذارة في الکوميديا، أو ماذا کان يعرف دانتي عن الإسلام؟

کنا ننتظر من حسن عثمان، فارس اللغة الإيطالية في العالم العربي آنذاک، إضافة جديدة للعلاقات الثقافية والعلمية بين إيطاليا وبلاد العرب، خاصة في فترة القرون الوسطى. ألم يکن حسن عثمان المدافع العنيد عن هذا العصر بذاته؟ أليس هو من کتب في مقدمته لترجمة "سافونارولا. الراهب الثائر" عن ضرورة دراسة هذا العصر؟ ألم يکتب:

"لا أدري إلى أي وقت نظل غافلين عن هذه الدراسة التي هي ضرورية لنا لعدة وجوه، منها أن العرب ساهموا بنصيب کبير في بعث حرکة النهضة العظيمة، فيجدر بنا أن نلم بالدور الخطير الذي قام به أجدادنا في الجنس والثقافة والدين [...] يجدر بنا أن نلم بمظاهر عصر النهضة وآثاره المتنوعة لکي نفهم ونتعلم ونقتبس [...] وجدير بنا أن نهتم بدراسة التراث الإيطالي في عصر النهضة على الخصوص، لأن إيطاليا هي المهد الذي تبلورت فيه تلک الثقافة اليونانية واللاتينية، وانبثقت منها إلى أنحاء أوروبا"؟

وضعت کل هذه الإعتبارات والأسئلة نصب عيني وقررت أن أَطرُق شتى أبواب البحث، مهما کلفني من وقت وعناء، للبحث عن مصادر الشاعر الفلورنسي ومنابع ثقافته عن الإسلام وتاريخه. وذهبت أُنَقب في النصوص اللاتينية المعنية بالإسلام في القرون الوسطى وکانت، کما هو معروف، حِکراً على رجال الکنيسة من رؤساء أديرة النساک إلى المفسرين لعلم اللاهوت والفلاسفة والمفکرين. کان اهتمام هؤلاء مُنْصبّا في الأساس ليس على معرفة الإسلام وتعاليمه کدين سماوي منزل، بقدر ما کانت رغبتهم في نقض وتکذيب کل ما جاء في کتب الإسلام ونفي کل ما تحمل من قيم وشعائر.

تقدم هذا الوکب بطرس المبجل رئيس دير کلوني بفرنسا (Pietro il Venerabile, abate di Cluny) الذي کلف مجموعة من المترجمين العاملين في إسبانيا تحت إشراف روبرتو دي کيتون (Roberto di Ketton) عام 1143 بترجمة القرآن إلى اللاتينية (لم تکن اللغات الحديثة قد تکونت بعد)، تلاها بعد نصف قرن الترجمة الثانية التي أعدها مارکو دا توليدو .(Marco da Toledo)

من النصوص التي شاع تداولها في أوروبا منذ القرن الثالث عشر  "قصة الإسراء والمعراج" المنسوبة لابن عباس بعد أن أمر بترجمتها ألفونس العاشر الحکيم (Alfonso X il Savio) 1221-1284 اعتقادا منه أنها إحدى کتب الإسلام المقدسة لمجرد وجودها ملحقة بنسخة من القرآن.

قام بترجمة "القصة" إلى اللاتينية والفرنسية کاتب البلاط الملکي وقتذاک الإيطالي بونافينتورا دا سيينا (Bonaventura da Siena) تحت عنوان "کتاب السلم (الصعود)" Liber Scaleأو Libro della Scala. ويرجع الفضل إلى برونتو لاتيني (Brunetto Latini) معلم دانتي وأستاذه، الذي کان لاجئا لدى ألفونس العاشر في وجود نسخة من الترجمتين في فلورنسا في الربع الأخير من القرن الثالث عشر.

إلا أن "قصة الإسراء والمعراج" المنسوبة إلى أنس بن مالک کانت بلا أدنى شک معروفة من قبل، إذ توجد إشارات صريحة عن معراج الرسول لأنس في مخطوط إسباني من القرن الثاني عشر محفوظ في أونکاستيو (Uncastillo – Aragona)، کما يرجع إلى نفس القرن ما کتب الراهب ريکولدو دا مونتکروشي 1320-1242 (Ricoldo da Montecroce) في کتابه "تکذيب کتب الشرقيين"  Contra legem Sarrcenorum و "مقالة ضد القرآن" الملحقة بنفس الکتاب التي نسخها الراهب بيترو دي بينيس (Petrus de Pennis) وألحقها بکتاب ريکولدو في المخطوط Vat. Lat. 976 المحفوظ في مکتبة الفاتيکان، و "تاريخ العرب" Historia Arabum الذي کتبه الأسقف رودريجو کسيمينس دي رادا (Rodrigo Ximénex de Rada)، و "ألأحداث العامة" Croníca General التي أمر بها ألفونس العاشر، وغير ذلک الکثير  من الأعمال التي ذکرناها في دراستنا ...

وقد أکّدنا بدلائل علمية موثقة على ما کان قد توصل إليه بالتخمين منذ أکثر من قرن مضى المستشرق الإسباني الکبير ميجيل أسين بلاسيوس Miguel Asín Palacios[3] ، وأثبتنا بما لا شک فيه أن "قصة الإسراء والمعراج" کانت إحدى المصادر الأکيدة للکوميديا الإلاهية وکان دانتي يعرف جيدا Liber Scaleفي نسختيه اللاتينية والفرنسية المترجمة عن قصة ابن عباس والتي ثبت بلا نزاع أنها کانت متداولة في فلورنسا خلال الربع الأخير من القرن الثالث عشر، والنسخة التي أثبت وجودها في بولونيا لوتشانو جَرْجان (Luciano Gargan)، إذ يخبرنا أن الراهب الدومينيکاني اوجولينو (Ugolino) ترک سنة 1312 إلى دير سان دومينيکو في بولونيا (Convento di San Domenico a Bologna) ضمن ما ترک "کتابا يدعى معراج محمد" (liber qui dicitur Scala Mahometti)، وهذه المعلومة في غاية الأهمية حيث أنه من المعروف أن دانتي کان في بولونيا في تلک الفترة. بل إن دانتي کان يعرف على الأخص القصة  المنسوبة إلى الصحابي الشاب أنس بن مالک[4]  في ترجماتها اللاتينية المذکورة. ومن الجدير بالذکر أن حديث أنس رُوِي کما نعلم في عدة روايات دون أن يطرأ عليه أي تغيير جوهري. فتُجمِع الروايات على أن الرسول کان في بيت ابنة عمه أم هانئ، يقال نائما بين عمه حمزة وجعفر بن أبي طالب (وفي روايات أخري "مسترخيا بين النائم واليقظ")، عندما هبط عليه جبريل من السقف، دون أن يحدث أي ازعاج أو يتسبب في سقوط حجارة أو تراب، فأيقظه وحمله خلفه على البراق متوجها إلى القدس.

کانت الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تقتضي عدة تجهيزات روحانية، فيوجه جبريل البراق نحو الکعبة، هناک يشق جبريل صدر الرسول وبطنه، دون أن يسبب له ألم أو جروح أو نزيف دماء، يفرغ أحشاءه ثم ينقيه ويطهره بماء زمزم، ويملأ جوفه (روايات أخري تضيف "ولَغَادِيدَهُ"، أي "عروق حلقه") بالإيمان والحکمة من إناء وضع في طست من ذهب. وهنا تختلف الروايات شکليا فتقول أن جبريل عندما فتح صدر الرسول وبطنه:

شَق من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه                                                                                          وأخري:                        شَق من ثغرة نحره إلى شعرته                                        وأخرى: شَق من النحر إلى مراق البطن             

وأخرى:            شَق ما بين نحره إلى لَبَّتِهِ

أليست هذه الصورة هي المصدر، إن لم تکن الترجمة الحرفية لبيت شعر دانتي الذي صور فيه الرسول:

“rotto dal mento infin dove si trulla”

أو کما ترجمه باللاتينية أول وأهم مفسري الکوميديا الإلاهية بنفينوتو دا إيمولا )أو Benvenuto da Imola (Rambaldi 1388-1320

Ab ore usque ad anum” "

أليست مدهشة المطابقة بين ما کُتِب عن لسان ابن مالک وما کَتَب دانتي؟ مطابقة لا تترک أدنى شک في أن الشاعر الفلورنسي استحوذ على الصورة التي رسمها أنس بن مالک  عندما حدثنا عن جبريل وهو يشق صدر الرسول وبطنه لينقيه ويطهره بماء زمزم قبل أن يتابع رحلته إلى المسجد الأقصى، ثم يعرج إلى السماء الدنيا.

هذا من ناحية.

 من ناحية أخرى، عندما يفتح رسولنا صدره ليفصح عن هويته قائلا: "أنظر کيف أتمزق، أنظر  کيف شُوِّه محمد"!، فهذه العبارة لها في نظري تفسير واضح وأکيد، لا أدري إذا کان قد غاب عن دانتي نفسه، أو أراد الشاعر کتابته، وکعاته في صورة وضعها في إطار مُقَنّع. إن موضع الإسم في تهاية البيت لها صوت عال بجلالِ وهيبةِ مقاطِعِه الطويلة، ويثير ما لا ينتهي من المعاني.

 يقول الرسول للشاعر الفلورنسي بصوت تطغي علي نبراته الفخر وتسوده العزة والکرامة: "متع عينيک بلحمي الممزق، ولکن تذکر من أکون: أنا محمد، لم ينهکني تعذيب جَحيمکَ، وفي الحياة الدنيا مبجلا من ملايين البشر، الذين ينتشرون في أرجاء العالم بعقيدتهم وعلمهم". وما أن تدوي کلمة "علم" في أذن دانتي حتى يفزع ويقشعر بدنه، وتُحَرک الکلمة في احساساته هذا النوع من الثورة والغضب تجاه نبينا، ليس فقط لأنه رسول الإسلام وخاتم النبيين، ولکن لکونه الممثل الأعلى لحضارة وثقافة أناروا العالم، وأوحوا إلى "شاعر إيطاليا الخالد" بُنية مماثلة لرحلته إلى السماء الدنيا، فاقتبسها وکتب مقلدا "الکوميديا الإلاهية" علي غرار "المعراج".

وهنا تکمن "عقدة المدين"، التي تفسر لماذا يصور دانتي رسول الإسلام في أبشع وأقبح ما صور في "الکوميديا". إن فرضية "عقدة المدين" لها وجاهتها، لأنها قد تکون أکثر التصاقا بالحالة النفسية التي يمکن أن نسميها "مرض المدين"،  وبلا شک أن من المسلمات، وخاصة في الأدب الفکاهي: الصورة المنفّرة جدا لشخصية الدائن.

 فمن ندين له يکون دائما، وعلى نحو مدهش، شخصا مکروها، وخاصة إذا کان الدائن، کما في هذه الحالة، شخصا أجنبيا، مرفوضا من الضمير الجمعي، مکروها ومرفوضا من المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. بل إن الاستهجان ضد الدائن في هذه الحالات يصبح واجبا أخلاقيا وفرضا للنجاة في ذلک المجتمع.

 في المعالجة الشنيعة والقاسية والسوقية والعنيفة، حتى في اللغة، والتي ادخرها دانتي بلا مبرر للنبي محمد، والذي لم يکشف فورا عن هويته الحقيقية، وإنما جمعه مع احدى الدجالين مدّعي النبوة، الراهب دولشينو من نوفارا، يمکننا من أن نَلمح شکا في الإصابة بمرض المدين.

کثرة الديون يا سادة! إنها "العقدة" التي لازمت دانتي حتى توفاه الله في رافينا (Ravenna) في الليلة ما بين 13 و 14 سبتمبر سنة 1321. فکم يدين دانتي نفسه والثقافة الغربية عامة للحضارة الإسلامية؟

"يمضي أمامي عليّ باکيا، مشطور الوجه من ذقنه إلى أعلى جبهته"، هکذا يواصل کلامه سيدنا رسول الله متوجها إلى دانتي. فلماذا يصور شاعر فلورنسا عليّ مشطور الوجه؟ ومن أين له هذا التعبير،هل هناک سابقة تاريخية يعرفها الشاعر أوحت إليه بتصوير عليّ "مشطور الوجه من ذقنه إلى أعلى جبهته"؟أم أن التشبيه راجع إلى حرية خياله الشاعري؟ لذا کان لابد على الباحث أن يتقصى حياة سيدنا عليّ لعله يجد فيها سر ما کتب دانتي، وعندما وصل إلى قِصَصِ مقتله في "أُسُد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير[5] قرأ الآتي: "انتدب ثلاثة نفر من الخوارج: عبد الرحمن بن مُلجَم المرادي [...] والبٌرک بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بکر التميمي، فاجتمعوا بمکة، وتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاث: عليّ بن أبي طالب ومعاوية وعمرو بن العاص ويريحوا العباد منهم. فقال ابن مُلجَم: انا لکم بعليّ، وقال البُرک: أنا لکم بمعاوية، وقال عمرو بن بکر: أنا کافيکم عمرو بن العاص فتعاهدوا على ذلک وتعاقدوا عليه.

في فجر يوم 21 من رمضان سنة 40 ه (الموافق 22 يناير سنة 661م)، جلس ابن مُلجَم ورفيقه شبيب بن بَجَرًة في المسجد "مقابل السدة التي يخرج منها عليّ، فلما خرج من الباب نادى: "أيها الناس، الصلاة، الصلاة"، کذلک کان يصنع کل  يوم يخرج ومعه درته يوقظ الناس"، فاعترضه ابن مُلجََم ورفيقه وضربا أمير المؤمنين بسيوفهم "أما سيف ابن مُلجَم فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه، وأما سيف شبيب فوقع في الطاق ...".

من الواضح أن دانتي عندما يصف عليّ "مشطور الوجه من ذقنه إلى أعلى جبهته" تعود ذاکرته إلى منظر رابع الخلفاء بجبهته الدامية المشطورة من قرنه إلى دماغه إثر ضربة السيف المسموم، و "عينيه داخلتان في رأسه"، کما وصفه قيس بن الأشعث صبيحة ضربه.

من هذا الوصف يتضح جليا أن دانتي کان قد قرأ ليس فقط عن اغتيال عليّ بن أبي طالب في الکوفة علي يد أحد الخوارج، بل کان على دراية کاملة ودقيقة عن تفاصيل کيفية قتله. وإن دل ذلک على شيء فإنما يدل على أن الفلورنسي کان مهتما بالثقافة العربية الإسلامية وتاريخ العرب والإسلام، ويعلم الله کم من المعلومات عن ثقافتنا لا تزال تکمن في ثنايا أبيات شعره، وما علينا إلا أن ننقب في الرموز التي ترکها في أشعاره الخالدة لنتعرف على مصادرها ونحترم فيه حبه للقراءة والمعرفة، وإن کنا لا نتفق مع آرائه في کثير مما يقول عنا.                                                                     ولا تتوقف استنتاجاتي عند هذا الحد، لأن ثراء الأنشودة الثامنة والعشرين من "جحيم" دانتي وما تحتوي عليه من إشارات ورموز يوحي بالکثير والکثير، مما يجبر الباحث على التسلح بالصبر والتجول بين الرموز المتناثرة والألغاز التي تخفي ربما شظايا من أفکار دانتي الفلسفية وحبه للمعرفة، معرفة کل شيء.

 أعتقد أن دانني أراد هنا أن يبرز کذلک ارتباط محمد وعليّ في العرق (أولاد عم، وعليّ زوج فاطمة ابنة الرسول) وفي العقيدة (عليّ ثاني أو ثالث الناس دخولا في الإسلام، ورابع الخلفاء الراشدين)، لکن دانتي أراد بکل ما أوتي من ذکاء وحکمة (إلى جانب الخيال الشاعري) أن يفصل بينهم في العقيدة، فإن کانت راية الإسلام تجمعهم إلا أن محمدا يرمز إلى السنة، و يرمز عليّ إلي الشيعة، أي کما يقول دانتي "اثنين في واحد وواحد في اثنين" (ed eran due in uno e uno in due, v. 121)، لذلک شُقّ محمد "من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه" وکان عليّ " مشطور الوجه من ذقنه إلى أعلى جبهته"، اثنين في جسم متکامل، مشقوق من أعلى الجبهة إلى أسفل البطن.

 لقد أخطأ حسن عثمان عندما رفض[6] ترجمة الأبيات الأربعين من الأنشودة الثامنة والعشرين من "الجحيم" التي خصصها دانتي عامدا متعمدا للرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمه ورابع الخلفاء الراشدين عليّ بن أبي طالب،  بحجة أنه وضعهم ضمن الشخصيات التي خصها بالذکر  في الحلقة التاسعة بين محدثي الشقاق ومثيري الفتنة، إذ برفضه لم ينصف الإسلام ولم "ينتقم" لنبينا.

الإسلام، دينا وثقافة وحضارة، ليسوا في حاجة إلى مدافعين ولا محامين، لقد تعرض الإسلام لهجمات شرسة وطعنات وإساءات وقحة في أکثر من ألف عام، ولا تزال هذه الإساءات إلى الرسول الکريم وعموم المسلمين – من رسوم "ماسخة" تسييء لنبينا إلى إصرار الرئيس الفرنسي ماکرون اعتبار هذه الرسوم نوعا من أنواع الحرية الفکرية والفنية، دون أن يُنقِص کل هذا من قدره شيئا ولا يؤثر على عقيدة أتباعه.

 استطاع فقط أستاذنا أن يطمس القيمة التاريخية والأدبية (والخيالية-الشعرية) للنص و مضمونه، دون مراعاة لتکامله أو احترام لوحدته، کما استطاع أن يحرم الدارسين من مادة خصبة کان بالإمکان أن تثمر خلال أکثر من نصف قرن العديد من الدراسات المقارنة وتفصح الکثير عن التفاعل الثقافي والتاريخي بين ضفتي البحر المتوسط.

 رحم الله أستاذي وأسکنه فسيح جناته!

 



[1] [1]  قراءة (متحيزة) لحادث محمد. الجحيم 28 ، 2015 : Lettura (faziosa) dell’episodio di Muḥammad. Inferno XXVIII, in QFR, 23 (2015), pp.263-99:

 

[2] يکفي أن أحيل القارئ إلى  N. Daniel, Islam and the West. The making of an Image, Edinburgh, University Press, 1960 (ristampa 2009)   وإاي  M. Di Cesare, The Pseudo-Historical Image of the Prophet Muḥammad in Medieval Latin Literature. A Repertory, New YYork/Berlin, Walter De Gruyter, Nov. 2011.

[3] [3] Miguel Asín Palacios,La escatologia musulmana  en  la Divina Comedia … ecc., Madrid, Estanislao Maestre, 1919.

 

[4] [4]  ابن کثير، تفسير القرآن العظيم، بيروت، مؤسسة الکتب الثقافية، 1996، ج 3، ص 3-32 ؛ صحيح البخاري، القاهرة، مکتبة الصفا، مطابع دار البيان الحديثة، 2003.

 

[5] [5]  عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق علي محمد معوض و عادل أحمد عبد الموجود، بيروت، دار الکتب العلمية، 2016.

[6] [6]  ترجمها غيره مثل حنا عبود وکاظم جهاد، لکن ليتهم ما ترجموها، لأنهم استطاعوا فقط، وبجدارة، حجب المعنى الذي أراده دانتي وشوهوا الأنشودة.