Document Type : Original Article
Author
قسم اللغة العربية - کلية الآداب - جامعة بني سويف
Abstract
Main Subjects
مقدمة البحث
يعد ذو الرمة([1]) شاعرًا ذا نفسيةٍ معقدة، وجهت قصائده الشعرية، لتعبر عن المکونات النفسية، التي کانت تمثل إشکالية نفسية بالغة التعقيد، أدت فيها اللغة دورًا مهمًا لتحقيق تلک الذات الحالمة المعقدة، التي کانت القصيدة الشعرية فيها أکبر تنفسيًا، وجاءت البائية الشهيرة له؛ لتکون لوحة فنية نفسية بديعة " تتوالى فيها اللوحات کما تتوالى الحرکات في السيمفونية، ينسج الشاعر لوحاته بحيث تتدفق معًا بشکل آني؛ فيمتزج النسيب بالرحلة، وتمتزج المرأة بالصحراء وحيواناتها، وتظل ذکراها في صراع دائب مع الواقع والمکان بطريقة أقرب لحوار " الکونشرتو" وجدله المتصل([2]) بالذات النفسية المقهورة، التي تتحرک بداخلها ثلاثية القهر النفسي، التي يعيشها الشاعر منذ طفولته، وکبرت بداخله، وکلما تقدم في العمر، وأراد التخلص من قهره إذا بهذا القهر يتفاعل مع الواقع، وتثيره الظروف؛ فيصبح نسقًا مثيرًا، تنزع نفسه للاستجابة له؛ فتتحرک رؤاه الخاصة: همومه، إحباطاته فيما سعى إليه، کي يعوض ظروف خلقته، وبيئته التي لا تتلاءم مع خُلقه وطموحه؛ فتصير الأحلام والطموحات والإحباطات باعثًا ومهيئًا نفسيًا لمخزون ضخم من القهر الإنساني، يتداعى معه اللاوعي الجمعي؛ فيعبر – من خلاله – عن الإنسان بکل حيواته، طموحاته، احتياجاته، خبراته، وتصبح الأسطورة الکامنة في نفسية الشاعر ووعيه فاعلًا، يمتزج بذاته الخاصة المقهورة، تترجمها اللغة الشعرية ذات الدلالة العميقة في البائية، في لوحات فنية نفسية خاصة وعامة، ليعبر عنها عبر مستوى الذاکرة الأسطورية الإنسانية، والمستوى الواقعي الخاص، والمستوى المأمول؛ لتصبح هذه المستويات هي المکونات الرئيسة في بائية ذي الرمة.
ويؤدي أفق التذکر الجمعي البعيد، وأفق التذکر القريب الخاص بالشاعر دورًا رئيسًا في عملية الإبداع، وصراعهما مع الحياة الخاصة، والأمل والطموح، الذي يسعى إليه، وفي أثناء اضطرام الصراع، وحدوث محاولات الکر والفر بينهما، الفکاک والتحدي، الطموح، تبدأ الأحلام اللغوية الناطقة في العمل؛ لتبدع بائية الشاعر الشهيرة.
وقفت ثلاثية القهر الخاصة بالشاعر عائقًا کبيرًا في تحقيق طموحاته الإنسانية الکبرى، فدمامة الشکل، وفشله العاطفي، وعدم مقدرته على مجاراة البيئة السياسية المنافقة في عصره، قتلت کل محاولاته في التواصل العاطفي، ودوره بوصفه شاعرًا کبيرًا شامخًا في القرب من الملوک والأمراء، وبهذه الثلاثية القهرية بدأت عملية الإبداع الشعري، والتعبير عن الذات المقهورة.
لقد کان الأحرى بالشاعر أن يتکيف مع المجتمع بکل عيوبه، ويحاول أن يتواءم نفسيًا أو أن يحدث توافقًا، ترتضيه النفس بحد أدنى مثلما تفعل الشعوب والمجتمعات والأفراد " حين تنتقل العادات والتقاليد والصراعات من جماعة إلى جماعة ثانية، ومن مجتمع إلى آخر. فالضعيف منها(فردًا کان أم جماعة أم مجتمعًا) يقلد القوي، والمهزوم يقلد المنتصر، والمتخلف يقلد المتقدم. وقد عدّ "تارد" التقليد مبدًأ أساسيًا وقانونًا عامًا، يسري على مختلف مستويات التفاعل الاجتماعي. وفي ضوء ذلک يقرر أن الأفکار والمشاعر التي يستوحيها الفرد من محيطه هي التي تحدد نشاطه النفسي"([3]) لقد کان ذو الرمة مهزومًا نفسيًا، وکان عليه کما يقول علم النفس أن ينصاع لتقاليد المجتمع، والبيئة المحيطة به، وينافق ويخضع له؛ حتى يستطيع أن يحقق ما تطمح إليه نفسه من قرب سياسي، ونجاح عاطفي، وکسر نفسي لدمامة الشکل، لکن کل هذا لم يحدث، واختار الشاعر أن يصارع ثلاثيته القاهرة، وأن يجتهد في التغلب عليها، دون الخضوع والاستسلام لتقاليد المجتمع. وعن طريق أحلام اليقظة الشعرية وإشباع الرغبات أو تعديل الإحباط والتوتر – کما يقول فرويد([4])- الناتج عن الکبت ، انطلقت اللغة الشعرية؛ لتعبر عن ذي الرمة في بائيته، التي جاء استهلالها استهلالًا نفسيًا عبر لوحات فنية ولغوية صادقة کاشفة له.
(1)
يعد المطلع من أهم أجزاء القصيدة الشعرية لأنه " أول ما يواجه السامع من القصيدة، وهو بهذا الاعتبار يحتل الأهمية الأولى من عناصرها، ولابد أن الشاعر يراعي ذلک، فهو بمثابة العنوان للقصيدة، أو المدخل إليها، ولذلک نلحظ أنه يحشد فيه أجود ما لديه من معان وحسن صياغة"([5]) يجذب السامع أو القارئ معًا، ويدفعه إلى التأمل والسياحة في دلالتهما البسيطة والعميقة، ولا يقف عند مجرد اللفظ الظاهر للقصيدة.
لقد استوقفني مطلع البائية لذي الرمة کثيرًا، في معانيه وألفاظه، وعمق دلالته النفسية، التي قصدها العقل الشعري له، ليعبر بها عن طبيعته المزدوجة" إما ثنائية أو متعددة، ثم تنتهي بعد ذلک بالرجوع إلى فکرة الانفصام dissociation انفصام الشخصية المعروفة في علم النفس والرجوع کذلک إلى الفکرة السابقة عن ازدواجية الطبيعة الإنسانية- إلا أن الکُتَّاب " الشعراء " يکشفون على غير علم منهم في الغالب، عن نفوس أخرى غَرَزية أو مقموعة "([6]) أو مقهورة قهرًا داخليًا ومطلع البائية، واستهلالها الشعري يدفعنا إلى التأکيد على عملية الکشف النفسي، التي أفرغ الشاعر فيها کل معاني الکبت والحرمان والسخط على نفسه، بيئته، ممدوحه، محبوبته، لقد کشف ذو الرمة دون أن يدري عن مکنوناته النفسية المخبوءة بلاوعيه، بألفاظ تبدو غير واضحة إلا من خلال الفهم النفسي له فيقول :
ما بالُ عَيْنِکَ مِنها الماءُ يَنسَکِبُ کَأَنَّهُ مِن کُلــى مَفرِيَّةٍ سَرِبُ
وَفــــراءَ غَرفِيَّةٍ أَثأْى خَوارِزُها مُشَلشِــلٌ ضَيَّعَتهُ بَينَها الکُتَبُ
أَستَحدَثَ الرَکبُ من أَشياعِهِم خَبَرا أَم راجَعَ القَلبَ مِن أَطرابِهِ طَرَبُ([7])
يذکر المؤرخون([8]) أن هذه القصيدة قالها ذو الرمة في مدح الخليفة الأموي عبد الملک بن مروان، وسواء قالها في عبد الملک أو أحد خلفاء الأمويين غيره، فلن أقف کثيرًا عند مدى صحة الرواية تاريخيًا، لکنني أقف عند البعد النفسي لهذه القصيدة المدحية للخليفة الأموي- أية خليفة- فلقد وجه النقاد کثيرًا من النقد لهذه المقدمة الشعرية، موضحين مخالفتها لکل الأعراف الشعرية المعروفة في زمانهم، ومن عاب هذا الاستهلال الشعري اکتفى بالنظر إلى اللوحة الفنية الظاهرة الدلالة، ولم يحاول أن يفک إشکالية الذات المقهورة المتمردة عند الشاعر، لم يتفهم نفسيته وعلاقته بالبيئة المحيطة به، وکيف أسهمت في نمو شعوره بالقهر النفسي؟، فراح الشاعر بوعيه ولاوعيه، يقاوم هذه البيئة، ويتمرد عليها تمردًا نفسيًا لفظيًا.
فربما تکون الظروف والرغبة المکبوتة في تحقيق ما حققه شعراء آخرون غيره ، من ذيوع وانتشار في بلاط الخلفاء والأمراء دفعت الشاعر إلى مدح الخليفة، لکنه لم يستطع أن يتغلب على شعوره الدفين بالتمرد، تجاه الخلفاء والأمراء، وبدت أمامه تلک الصور النفسية الکامنة بداخله،" فإن لهذه الشخصية بطبيعة الحال صورة معينة في نفسه، وله – أيضا- مشاعر معينة نحوه، قد تکون مشاعر رضا، وقد تکون مشاعر سخط وازدراء، لکن موضوع القصيدة يفرض عليه الثناء، ويفرض عليه عدم إبداء ما قد يکون في نفسه من مشاعر السخط نحو هذا الممدوح، وهنا تبدو قيمة أبيات المطلع وأهميتها، فإن الشاعر بأسلوبه ومقدرته الفنية يستعمل أبيات المطلع، ليصب فيها عادة مشاعره وانفعالاته"([9]) الحقيقية تجاه الممدوح، فذو الرمة أراد أن يمتدح الخليفة، فلم يطق " لا وعيه " النفسي أن ينافق، وينطق بما لا يؤمن به، أو لا يعتقد فيه، فغالب مشاعره وتکلَّف، ومما هو معروف في علم النفس أن التکلف والمبالغة اللذين ينبعان عن مغالبة النفس يعبران عن النقص، أو التناقض تجاه المعلن والخفي. وربما عقد مقارنة بين حاله، وحال الشعراء المقيمين ببلاط الخليفة، بين فقره وعوزه وثرائهم ونعيمهم، فازداد توترًا وقلقًا، دفعه لمزيد من الغضب والقهر.
فالبيت الأول يعبر فيه عن دلالة نفسية عميقة توضح لنا مدى القهر النفسي الذي يشعر به الشاعر، حتى أنه عندما أراد أن يمتدح الخليفة، لم يتوقف عند صفات الکرم والجود، ونبل الأصل، والقوة والشجاعة، إنما توقف أمام الوصف الجسدي، وکأنه لم يکن مقتنعًا بممدوحه، أو غير راضٍ عنه، لذلک لم ير منه سوى أضيق وأصغر ما في وجهه، وهي العين، واختارها وهي ناقصة الحسن، أفسدتها الدموع، التي تتساقط فيها مرضًا أو حزنًا، ويتصل معنى البيت الثاني بالأول، فالعين ينسکب منها الماء، وتتسع الرقع النفسية، وتزداد الهوة بين الشاعر وواقعه، ونفسه المقهورة المتمردة، فلا تصلح محاولات التمام، وإحداث توافق نفسي، ومصالحة بين الشاعر ونفسه وممدوحه، فالماء يتساقط متصلًا، ونفس الشاعر تزداد تمردًا مع کل قطرة دمع، وفي البيت الثالث يتجرد الشاعر من نفسه ويناجيها متسائلًا ما سبب هذا الذي يجري؟ ويربط بين الرحلة والحزن ومجيء الأخبار، متعجبًا من سبب وجوده في هذا المکان، وحالاته النفسية المضطربة، فهل من جديد، أم هل جاءت أخبار غيرت في ذاتي المقهورة، حتى أغالب نفسي، وأرضخ للنفاق السياسي والتدني الشعري، وأقف مادحًا سعيًا لشهرة أو نجاحات أنا أحق بها دون الوقوف ها هنا.
فالعين التي يمدحها الشاعر – التي هي رمز الجمال والحسن – تبدو وکأنها مزادة واسعة جيدة الدبغ، لکنها ناقصة الحسن، أفسدها خراز بغُرز الإسفي، الذي اتسعت فتحاته، وتقاربت مع دقة في سيور النسخ، فضاع ماؤها من خلال تلک الفتحات، کما أفسد صفاء اللبن، وذرف دموعها حزن له غلظ ذلک الإسفي وقسوته"([10]) لقد حقق الشاعر جزءًا مما کان يصبو إليه من رغبة في مصاحبة الخلفاء والأمراء، لکنه لم يستطع أن ينافق، أو يتخلى عن رؤيته تجاه الخليفة والحياة والموت، والصحراء والقهر النفسي، الذي يعانيه، فلم يستطع أن يرى إلا المرض في الوجه الملکي، والدمع في العين المعبرة، وهذه الرؤية الخاصة بالشاعر تعبر عن مدى ما يعانيه من قهر نفسي، يدفعه للقلق الدائم، وهو ما عبر عنهما فرويد بکلمتي التکثيف condensation والاستبدال displacement وهما معًا يشرحان العمليات العقلية، فالعقل يموه بها، عن رغباته ومخاوفه "أي يظهرهما" الرغبات والمخاوف في صور غير صريحة أو مباشرة من التکثيف تظهر – في قصة الحلم – مجموعة من الأفکار أو الأشخاص متجاورة في صورة واحدة، وکأنها شيء واحد، أما الاستبدال فيحل شخص أو رغبة ما أو قلق ما محل شخص آخر أو رغبة أخرى أو قلق آخر بينه وبينه ارتباط بعيد قائم على جملة من التداعيات لا يستطيع أن يکشف عنها"([11]) إلا النص الشعري.
هذا ما کان واضحًا في استهلال ذي الرمة الذي تداخلت فيه المشاعر بمخيلته، والرؤى أمامه تداعت بقوة، فاختلطت الرغبة الظاهرة بالرغبة المکبوتة، فعبَّر عن مدح الخليفة بما يراه هو في نفسه من دمامة وقبح، وکأنه لجأ إلى الإسقاط، فلم ينتظر أن يرى فيه الخليفة القبح والدمامة، فباغته هو برؤية أسوأ ما فيه، بصورة رمزية غير صريحة، ولعل هذه الرؤية ربما تعکس نظرة الشاعر من خلال مرآة القهر النفسي، الذي دفعه أن يرى جمال العين مرضًا، والماء الذي هو أکسير الحياة ملحًا يخرج من عين المرض؛ فتستحيل الحياة معه إلى موت، والفرح إلى حزن، والحرية إلى قهر، ويقتل الأمل. والماء المالح يعد رمزًا للفقر والجفاف والعقم، فکأنه رأى الخليفة بکل ما فيه من ثراء وسلطان ونعيم عقيمٌ فقيرٌ يحتاج إلي شعره ولا يحتاج هو إليه.
إن شاعرنا ذا الرمة يلجأ في استهلاله الشعري للاستيهامات اللاشعورية، التي تُخرج ما بداخله من مآسٍ وحالات قلق أو خوف أو کره أو بغض، فتلک الاستيهامات اللاشعورية التي تصلح " رحمًا " لکل التخييلات التي فيها تشبع الذات رغبتها على المستوى المتخيل بإعادة تقديمها إلى نفسها، وبعض هذه الآثار تجد طريقها إلى العمل الشعري للغة"([12]) ويمکننا أن نسقط هذا على الاستهلال الشعري لبائيته.
ولو وقفنا عند الدلالة اللفظية للغة الشاعر لاستطعنا أن نتعرف على مقصد نفسه، الذي أراده من وراء استهلاله هذا، فالطريف أنه يبدأ مديحه للخليفة بتساؤل مثير وغريب في آن واحد، ما بال عينک.....؟ والسؤال هل يحق للشاعر أن يوجه سؤالا للخليفة الممدوح في مطلع قصيدته؟، وفي حضرته؟، وإن کان يحق هذا أو يجوز من باب المديح والتعظيم، فهل يحق له أن يکون سؤاله عن عيب أو مرض أو مشهد معيب للخليفة؟! والحقيقة أن هذا لا يجوز مطلقًا من الناحية المنطقية الظاهرة، وننطلق إلى الضمير ( الکاف ) في عينک، هل هو ضمير الخطاب الخاص بمخاطبة الخليفة؟ هل يُخاطب الخلفاء بهذه الصيغة الخطابية؟! أم أن الشاعر لم يقصد الخليفة في ذاته. المعروف أن ذا الرمة لم يمتدح الخلفاء والأمراء، وظل حبيس تقاليده الشعرية الخاصة لا يفارقها، هو نفس تأبى النفاق والتوسل بالشعر، لذلک فعندما وقف في حضرة الخليفة تداعت إليه کل صنوف القهر النفسي الذي يعانيه، ولا يراه متحققًا بوفرة عند غيره ممن هم أقل منه شعرًا وقدرًا نفسيًا، فبدأ عقله – کما يقول علم النفس – في عملية التمويه النفسي واللفظي والبصري، فإذا بالشاعر يخاطب نفسه متسائلًا – على عادة الجاهليين – أفي هذا المکان وحضرة الخليفة تشعرين بالأسى والحزن والقهر؟، وتدمع عينک؟، أليس هذا موضعًا کنت تتمنينه، فلماذا إذًا هذا البکاء؟، کأن النفس التواقة للشموخ والتأمل تمعن في ضعفها وبکائها الرافض للنفاق النفسي والاجتماعي، فتزداد الدموع التي تعبر في ذاته عن الجفاف النفسي، والعقم الحادث في تلک اللحظة الفارقة نفسيًا عند الشاعر.
فالشاعر هنا يخاطب نفسه کما کان يفعل الجاهليون قبله خطابًا عقليًا نفسيًا يرسم فيه لوحة فنية ذات دلالة إبداعية عميقة استعصى فهمها على أبناء عصره من النقاد.
هناک ثلاثية مقدسة عند "لاکان" يقوم عليها - من وجهة نظره- التحليل النفسي اللغوي، وهي " الحاجة / الواقعي، الاحتياج / الخيالي، الرغبة/ الرمزي، إن الواقع الحقيقي للفعل التحليلي هو عالم الرغبة، الذي تخلفه اللغة محولة الحاجة إلى رغبة في الاستجابة لاحتياجات الآخر (الأم) (m)other للحب.إن الرغبة مثلما هو الحال للدافع الفرويدي، لا يتم إشباعها أبدًا، وتتواجد دائما، ويتم استبدالها وتحويلها باستمرار"([13]) وهذا التحويل والاستبدال هو الذي دفع ذا الرمة لهذا الاستهلال المبتکر الموظف للتمويه العقلي واللغوي والدلالي
أم دِمنَةٌ نَسَفَتْ عَنها الصَّبا سُفَعًا کَما تُنَشَّرُ بَعدَ الطَيَّةِ الکُتُبُ
سَيلاً مِنَ الدِّعْصِ أَغْشَتهُ مَعارِفَها نَکباءُ تَسحَبُ أَعلاهُ فَيَنْسَحِبُ
لا بَلْ هُوَ الشَّوقُ مِن دارٍ تَخَوَّنَها ضَرْبُ السَحابِ وَمَرٌّ بارِحٌ تَرِبُ([14])
الشاعر يستعيد ذاکرة الدمن والبکاء على الأطلال ليربط بين الدمع في البيت الأول وبين ما تعبر عنه نفسه، فيؤکد أن نفسه کانت منغلقة هادئة مستکينة قبل أن تأتي إلى هذا الموضع، حيث حضرة الخليفة، التي فعلت بنفسه فعل الريح التي کشفت کل ما في سطح الأرض، وما خبأته الرمال، فکأن نفسه استدعت کل الآم إنسانية، کل قهر عاشه الشاعر هنا، وکما يتذکر الشعراء الجاهليون الأطلال والذکريات الحبيبة، ويبکون عليها ومعها، يستدعي وعي الشاعر ولا وعيه کل ذکرياته المؤلمة، ثلاثية قهره، لتبکي نفسه في حضرة الخليفة، فلا يرى إلا العين الدامعة، المريضة، فکأن الشاعر يرى فيها حال نفسه المشتتة، لقد بدت کل قصور الخليفة مجرد دمن، في مفارقة فنية ولغوية دالة على القهر البصري، الذي نتج عن قهر نفسي، أکثر عمقًا وترسخًا في ذات الشاعر، وانفتحت النفس، وأعلنت عما فيها عبر لغة رمزية عميقة ذات دلالة قهرية، " کَما تُنَشَّرُ بَعدَ الطَيَّةِ الکُتُبُ " فبدت کالکتب تحتاج القراءة، والفهم للکشف عما في دواخلها، وتأکيدًا لهذا المعنى النفسي، يوظف الشاعر لفظة " نکباء "؛ ليعبر عما ألم به من صراع نفسي رهيب، عندما خالط الخليفة، وأراد مدحه، لم تعد رغبة الشاعر في الحصول على المال والشهرة ورضا الخليفة عاملًا رئيسًا في هذه اللحظة، إنما استبدله بالصراع، الکشف النفسي، مرآة القهر؛ ليرى فيها حاله وتمرده على رغباته، التي قد تقتل طموحه، کبرياءه، " نَکباءُ تَسحَبُ أَعلاهُ فَيَنْسَحِبُ " لقد استدعت تلک الريح النکباء / القهر ، الصراع، المرآة النفسية، فجاءت جميعها لتقض هدوء الشاعر وسعادته بالقرب من الخليفة. إن الشاعر يکشف عن الحزن الذي بدا عليه، والدمع في عين ممدوحه / عينه ونفسه، بأنه ليس حزنًا من خبر جاء، أو من أثر دار افتقد فيها محبوبته، إنما من شوق تداعي وتصارع مع واقع وحاجة ورغبة واحتياج، انتهى إلى رفض هذه الدار / قصر الخليفة، التي افتقدت للسحب، للمطر، للماء الذي هو الحياة، فبدت دار أموات، يحلق فوقها عناصر القهر والکآبة، التي وفدت إلى نفس الشاعر، في مفارقة تؤکد سعيه للطموح والفوز بالذات الشاعرة والکبرياء لا لتحقيق الرغبة والحاجة عبر تواضع وتدنٍ ومدح للخليفة، إن الشاعر يريد أن يسعى إليه النقاد، الخلفاء، الأمراء لا أن يسعى هو إليهم، وينتظر على بابهم عين الرضا ويرضى بمالهم الفاني.
إن الاستيهام الذي هو إنجاز مشوه لرغبة مکبوتة – وکل رغبة لا واعية- تسعى إلى أن تُحقق باسترجاع العلامات المرتبطة بالتجارب الأولى للإشباع، إن هذا الاستيهام هو الذي دفع ذا الرمة ليبتدئ قصيدته البائية بهذه البداية التي کان المقصود بها مدحًا لخليفة قوي، يملک أن يحقق لشاعرنا ما يصبو إليه، من عطايا أو من تکريم معنوي، وملازمة لبلاطه، لکن الاستيهام والآخر الذي تحرک بداخل الشاعر؛ دفعه کي يعبر عما يراه حقيقة، مشوها داخل نفسه تجاه هذا الممدوح، وکأنه يصف حالته النفسية، وما سيؤول إليه حاله مع هذا الخليفة أو الملک أو الأمير. لقد دفع الآخر في لاوعي الشاعر أن يتلذذ بما يرى، من ألم أو مرض، يلزم ممدوحه، فتحرک لينتقم لذاته المحرومة بداخله، فلم ير من کل ما في بلاط الخليفة أو ملابسه أو زخارفه إلا العين المصابة؛ فوصفها قاصدًا في الظاهر المدح، منتقمًا لذاته في الباطن، مؤکدا هذا بأنْ ربط بين قصر الخليفة وبين الأطلال، في حين أنه لم يشر، ولم يذکر قصرًا للخليفة أو بناء، أو أي رسم مادي يعبر عن حاله السعيدة، بل ربط بين الأطلال وبين ما تغافل عنه، ولم يذکره، ولم يشر إليه، فالمسکوت عنه هنا أوضحه بقوله:
إِلى لَوائِحَ مِن أَطلالِ أَحْوِيَةٍ کَأَنَّها خِلَلٌ مَوشِيَّةٌ قُشُبُ([15])
بدت الأطلال وکأنها ديار جديدة ذات زينة وجمال، لقد شبه الأطلال بالقصر، وکأن القصر / الديار الجديدة بيوت أشباح تفتقر للروح، للحق، للحياة، للطموح، فقط تعتمد النفاق، المال، وسيوف القهر تسلط على رقاب أهل الطموح والحياة المثالية.
ذو الرمة يکتب لإشباع الآخر بداخله، يکتب ليرتاح، ويهدأ بعد المعاناة والعذاب، " فالفن هو المجال الوحيد الذي تصان فيه کل قوة الأفکار إلى يومنا هذا، ففي الفن فقط يحدث للإنسان، المعذب برغباته، أن يحقق شيئًا شبيهًا بالإشباع، وبفضل الوهم الفني، تولد هذه اللعبة الآثار الانفعالية نفسها، کأن الأمر يتعلق بشيء من الواقع. لقد صدق من تحدث عن سحر الفن وقارن الفنان بالساحر([16])إن النص الشعري عند ذي الرمة عبارة عن قذائف لا شعورية تخرج من لا وعيه بلا علم منه ولا قصد، فهي قذائف مرموزة، تحتاج للتحليل والقراءة المتأنية، من أجل فک شفراتها الکامنة بذات الشاعر ولغته الشعرية المرموزة، فشعر ذي الرمة واستهلاله الشعري النفسي لا يحدثنا عن الآخرين، ولا يمتدح الملوک والأمراء بقدر ما يحدثنا عن الآخر بداخله، الآخر الکامن في ذات الشاعر، يحرکه ويوجهه دون أن يدري.
(2)
يرتبط وجود المرأة بتجربة الحب في مستوياتها الکونية والإنسانية بأبعادها الوجودية والاجتماعية والفردية، ويرى بعض الفلاسفة أن التاريخ کله عملٌ من أعمال الحب، ففعل الحب يعبر عن الرغبة في الموت، والذوبان في موضوع الرغبة، کما أن إشباع الرغبة يعد مفتاحًا؛ لتجدد الکون والمشارکة في فعل الخلق، ويحمل الإحباط في الحب في طياته تاريخ الانفصال والألم ومشاعر الانکسار، فيتحول الإحباط إلى رغبات محملة بالشر والأنانية والانتقام آنا، کما أنه قد يرتد إلى ذات الحب أعراضًا واستعلاء، في عالم مثالي رافض، ونکران للذات آنا آخر، تلک المشاعر يقابلها بلوغ الإشباع في الحب، الذي يحمل معاني التلاقي أو التوحد والانتصار أو تحقيق الذات، واکتشاف العالم أو التنوير وإدراک الغاية أو الخلاص"([17]) وذو الرمة کان يسعى سعيًا حثيثًا ببائيته إلى الخلاص، تحقيق الذات، والانتصار لنفسه، وشاعريته المقهورة بسبب تجاهل الخلفاء والأمراء والنقاد له، وابتعاد النساء عنه، بسبب دمامة ملامحه، کل هذا ترک بداخله الرغبة الأکيدة في الخلاص والسعي لإنکار هذا الواقع المؤلم له، ويتصرف ذو الرمة کونه إنسانًا متکاملا قد تخلص تماما من هذا الواقع وهذا ما نراه في حديثه عن مية تلک المحبوبة الملائکية.
دِيارُ مَيَّةَ إِذ مَيُّ تُساعِفُنا وَلا يَرى مِثلَها عُجْمٌ وَلا عَرَبُ([18])
فالشاعر يقف أمام ديار مية وقفة نفسية مختلفة تمامًا عن تلک الوقفات التي کان يقفها الشعراء أمام ديار الأحبة، فديار الأحبة کما وصف ذو الرمة في الأبيات السابقة أطلال مهمومة، تحمل بقايا الذکرى والألم والفراق، أما ديار مية فهي کما هي باقية بقاء المحبوبة" مية "، فمية مختلفة عن کل المحبوبات الأخريات، فهي إنسانة أسطورية مثالية، ارتبطت معرفته لها بالعطش، الذي روته هي بالماء، لقد کان الماء حاضرًا في لقائهما الأول، والماء سر الحياة، وقيمته في الصحراء تعادل الحياة وتنفي الموت، لذا فديارها لم يعرفها العرب ولا العجم قديمًا أو حديثًا، وهذه المقدمة النفسية الموحية بجمال المحبوبة الخارق تکتمل برسم صورة مية الأسطورية فهي:
بَرّاقَةُ الجيدِ وَاللَبّاتِ واضِحَةٌ کَأَنَّها ظَبيَةٌ أَفضى بِها لَبَبُ
بَينَ النَّهارِ وَبَينَ اللَّيلِ مِن عَقَدٍ عَلى جَوانِبِهِ الأَسبْاطُ وَالهَدَبُ
عَجزاءُ مَمکورَةٌ خَمْصانَةٌ قَلِقٌ عَنها الوِشاحُ وَتَمَّ الجِسمُ وَالقَصَبُ
زَينُ الثِّيابِ وَإِن أَثوابُها اِستُلِبَتْ فوق الحَشِيَّةِ يَوما زانَها السَّلَبُ([19])
فهي تبدو في صورة أسطورية شامخة، فهي ليست من بنات البشر، إنما هي تستمد جمالها من سماويتها العالية، فکأنها هبطت من السماء العليا حيث الآلهة القائمات هناک، أو تبدو " کأنما برزت من باطن الأرض، أو کأنما هي سر من أسرارها، أفضت بها کثبانها في طبقة رقيقة " لبب " من رمالها المتعقدة " عقدة" في لحظة سحرية لا تنتمي لليل ولا تنتمي للنهار، وإنما هي لحظة موت وميلاد([20]) لحظة موت للقهر النفسي داخل الشاعر، والخلاص من عقدة النقص، التي کانت تطارده في کل لحظة، ومع کل رفيق يلازمه، موت للدمامة والقبح، وميلاد لذي الرمة الجديد، المحب العاشق المحلق في عنان السماء الإلهية، التي أعانته في قتل القهر بداخله، أو ربما أضفت عليه جمالًا وحسنًا لم يکن موجودًا، به من قبل، ربما تکون " مية " التي تقمصتها الظبية الإلهية المعبودة، قد أزاحت ليل القهر بنهار النور والجمال وکأنها" لحظة انسلاخ تشبه اللحظة السحرية التي خرجت فيها " أثينا" من عقل زيوس أو اللحظة التي خرجت فيها أفروديت من زبد أمواج البحر بعد أن اختلط بعضو الذکورة المقدس، لقد بزغت والزمن على وشک ولادة ليل في لحظات من بشائره تنتهي دورة وتبدأ دورة([21]) الحياة الجديدة لشاعرنا المتطلع للحب والنقاء، للخلاص، إن الصورة النقية لتلک المحبوبة " مية " لا تعود إلى مجال المحبوبة في ذاتها، إنما تعود إلى قيمة الشاعر المحب العاشق، الذي منحها من قدره وقيمته الإلهية الرفيعة، ما سقط عليها، فأحالها إلى ظبية إلهية معبودة، والمعروف قديما أن للشاعر قدسية ومکانة کبرى، فهو مقدم في قبيلته مسموع الکلمة، مهاب الجانب، تخضع له القبيلة وتلين، لما يضفيه عليها من قدر کبير، وهذا القدر والقيمة والمهابة، والسحر، هو ما منحه حبًا لمية، فهي أشبه بظبية حائرة، ظلت طوال النهار ترعى حتى شبعت، فهدأ بالها، وأخلدت للحلم الساحر ليلا، والشاعر بشعره وقدره هو ما رعته الظبية / مية وما عاشته حلمًا واقعًا ليلًا هو حبه لها وتغنيه بجمالها.
فالشاعر بوصفه لمحبوبته ورؤيته لها يحاول أن يمارس التعويض النفسي، الذي يتخلص به من کل أثمال القهر وأطماره، التي سيطرت عليه قبيل حبه لمية، وليؤکد حصوله على مبتغاه النفسي المأمول، الذي يرضيه ويرضي طموحه، وأنه صنع بقدره الشعري محبوبة مثالية، اکتشفها، من بين صحراء البادية؛ لتتصدر قصائده، وتصير بفضله معبودة العرب / الظبية البديعة. وهذا ما يؤکده بيته الشعري
زَينُ الثِّيابِ وَإِن أَثوابُها اِستُلِبَتْ فوق الحَشِيَّةِ يَوما زانَها السَّلَبُ([22])
فهو يقصد أنه وإن استلبت ثيابها / جمالها، فحب الشاعر کفيل بأن يعوضها، ويضفي عليها زينة کبرى، " زانها السلب ". إن الشاعر يحاول تعويض نفسه المقهورة بالشعر، فکما يقول فرويد بالفن " بالشعر " وحده لا يفتأ الإنسان يندفع تحت وطأة رغباته اللاشعورية يبتغي إشباع هذه الرغبات([23]) أو التخلص من العقد والقهر النفسي الملازم له، فالقصيدة کما يقول هانزساکس " ليست سوى حلم يقظة اجتماعي([24]) يريد به – بها – شاعرنا القضاء على کل أسباب القهر والهجر النفسي الذي يعانيه، لذلک فهو يحاول جاهدًا التأکيد على ذلک في بائيته من خلال وصفه لمية محبوبته الأسطورية قائلا:
کَحلاءُ في بَرَجٍ صَفراءُ في نَعَجٍ کَأَنَّها فِضَّةٌ قَد مَسَّها ذهَبُ ([25])
يقف الشاعر أمام العين واصفا إياها بالجمال الساحر من حيث الاتساع وقوة البصر، وهذا التأکيد على جمال العين، يعود إلى تلک العين التي ترى الشاعر، فبمجرد رؤية الشاعر يلبسها جمالًا فوق جمالها، لما يمثله الشاعر من قيمة إنسانية، وقدسية إلهية شعرية کبيرة، قد لا يکون الشاعر جميلا في ذاته، لکن جماله يعود على الناظرين، فيکسبهم جمالًا وحسنًا، ويؤکد کذلک بقوله " کَأَنَّها فِضَّةٌ قَد مَسَّها ذّهَبُ " فهي المحبوبة وعينها فضة جميلة، لکن ما زادها جمالًا وسحرًا حسن الذهب الذي مسها، والذهب هنا هو قدسية الشاعر، وقدره الذي اکتسبه من شعره ومثاليته، ولأن الشعر لفظًا وعبارات لابد أن يسمع، فکان لزامًا عليه أن يصف الأذن، وما فيها من جمال وزينة، للتأکيد – أيضا – عبر وسائله النفسية العميقة التي ضمنها للغته الشعرية على الخروج من أسر القهر إلى رحبة الذات الواثقة الجميلة بحسنه فيقول:
وَالقُرْطُ فُي حُرَّةِ الذِّفرى مُعَلَّقُهُ تَباعَدَ الحَبلُ مِنهُ فَهوَ يَضْطَرِبُ([26])
ومما هو معروف أن المبالغة أو التکلف أو الإکثار من الوصف وإضفاء صفات القدسية الجمالية لشخص ما يعبر – دومًا – عن شعور داخلي عميق بالنقص في وجود الجمال أو الصفات المبالغ فيها، فدوما عندما يکثر الشاعر ويبالغ في وصف محبوبته- کما فعل ذو الرمة- فذلک يعبر عن نقص شديد لهذا الجمال في شکله وملامحه، فنستطيع أن نفهم أن الوصف المبالغ فيه لمية، إنما هو مبالغة لإخفاء دمامته وقبح فيه، فکأنه يعلي من جمال المحبوبة؛ ليؤکد أن به من صفات العظمة ما يستحق معه هذا الجمال الساحر لمية، رغم کونه لا يتميز بهذا الجمال الظاهري، إنما يتميز بجمال شخصي، ونبوغ شعري عظيم، يفوق کل جمال سطحي فإن فالشاعر يمارس الهروب النفسي، أو هروبًا تمثيليًا رمزيًا من واقعه المحبط، إلى طموحه وحلمه بالجمال المثالي. ولأن التعبير الشعري – کما يقول يونج([27])- تعبير ذو صبغة فکرية ووجدانية، فذو الرمة يبني وصفه لمحبوبته بحقيقة فکرية کانت تتوارى في کل أبيات الوصف السابقة فيقول:
تِلکَ الفَتاةُ الَّتي عُلِّقتُها عَرَضاً إِنَّ الکَريمَ وَذا الإِسلامِ يُخْتَلَبُ([28])
في هذا البيت يؤکد الشاعر حقيقتين فکريتين نفسيتين الأولى: إن الحب قد جاءه على غير رغبة منه، فهو لم يسع إليه في ذاته مطلقًا، والحقيقة الثانية أنه يستحق هذا الجمال، وهذه المحبوبة وأکثر من ذلک، فهو الکريم وصفات الکرم من أکثر الصفات الأخلاقية، التي کان يتغنى بها العربي القديم، والرجل الکريم کانت تسعى إليه النساء، والکرم هنا أيضا ليس الکرم المادي فقط، إنما کرم مادي ومعنوي وعطاء إنساني شعري کبير، يبقى ولا يفنى بفناء صاحبه، والصفة الثانية " ذا الإسلام " فهو کريم مسلم مخلص الإسلام، فهو بذلک يستحق جنة الحياة الدنيا والآخرة.
ولا يستطيع البحث أن يفصل مية وحب ذي الرمة لها، عن أول لقاء بينهما، وهو اللقاء الذي سلب عين ذي الرمة وفکره وقلبه، وکان عطشان يرغب في الماء، وإذا بالماء يتوفر في يد مية، ومن مية، فهي باعثة الحياة لهذا الباحث عن الحياة، فالمحبوبة هنا هي الحياة في ذاته، الحياة بکونها رمزًا للخصب وتجدد الحياة کما هو معروف عند العربي القديم، والحياة بکونها أنقذت هذا الرجل الحائر التائه في الصحراء يعاني العطش والتعب، فإذا بها تمد له يد الهداية النفسية بنظراتها له، ونظراته لها، وتهب له يد الحياة حين قدّمت له الماء فشرب منه، وجدد حياته به، کما جددت هي حياته وطموحه وخصوبته وفحولته الشعرية، إن مية هنا ليست محبوبة عادية، وليست هي محبوبة خيالية کما يصنع الشاعر الجاهلي قبله، إنما هي واقع وخيال، حقيقة مثالية ملائکية، تمثلت لعين الشاعر؛ لتؤکد له قدرته على العطاء؛ وتقتل اليأس بداخله، وتزيح القهر عن عينه وفکره، فيبدو الهدوء النفسي والسعادة عليه واضحًا
لَيالِيَ اللَّهوُ يَطْبيني فَأَتبَعُهُ کَأَنَّني ضارِبٌ في غَمرَة لَعِبُ([29])
فالحب / الجمال ساعده في الخلاص والتعويض وقتل القهر، فبدت حياته – مؤقتا- حياة ناعمة، وبدا هو کالسابح في بحر من الهناء والنعيم، لکن هذا لا يدوم، لأن الحب والجمال والتعويض والخلاص مرهون بالخلود والبقاء، والدنيا لا تعرف الخلود ولا البقاء، فدائما ما يعقبهما موت أو فناء أو قهر، فبالرغم من کون " المرأة هي أعظم رمز للحياة تعکس حاجة الإنسان الأصيلة للأمان في عالم لا يتصالح مع مخاوفه، وحيثما يظهر التوتر بين الخير والشر والتجدد والفناء يظهر رمز المرأة، والحب والرغبة، والثقة والخوف، والإعجاب والاحتقار، والتلهف والاشمئزاز، والعلو والسقوط. لقد مزج الإنسان – عبر التاريخ- کل هذه الصفات ، ووقف في النهاية متحيرا في فهم ذلک الغموض المذهل، عاجزًا عن فهم ذلک التنوع المتتابع المتبدل، - شديد الترکيب والتعقيد- لأوجهها، وعاجزًا عن إدراک تلک الهوية التي تتعلق بالحقيقة الأولية، وتتصل عبر تعاطف سري بقلب الوجود"([30]) وهذا کله ما بدا أمام شاعرنا إشکالية نفسية کبرى، فمن بين خيوط الهدوء النفسي بدا القلق باديًا جليًا في نفسه رغم قربه من حبيبته المقدسة، " إننا أمام قصيدة تعد " مادة رخوة مصبوغة بشکل عنيف باللذة والنفور، من خلالها تحاول أن تظهر نفسها وتسمع " کيانات " مادية .. تکون مدرکة إما کأنواع من الصور بمعني تمثيلات الأشياء وإما کأدلة لسانية بمعني تمثيلات الکلمات، لکن سواء تعلق الأمر بأشياء أو بکلمات، فالوعي الذي هو الکلام ( الخطاب ) لا يعرف القبض عليها إلا من خلال اللغة، وهي إن لم تکن مجردة من مدلولاتها المنطقية العادية فهي على الأقل تتحول نحو نظام آخر من الدلالة، إن نظام " التدلال الفائض / الحال محل " هو ما يکون اللاوعي أدخل اللغة وينبغي التأکيد أن هذا الأخير إذا کان مبنيًا کاللغة فهذا لا يعني أنه يملک لهجة خاصة، ذلک لأنه يملک القدرة على تغيير اللغة، أو بتعبير أدق هو نفسه القدرة ذلک لأنه يقوم على التغيير نفسه باعتباره خطاب الآخر، وبهذا نجد أنفسنا أمام مادة لفظية مخترقة بمهارة من طرف بلاغة نوعية"([31]) أثرت المعني وأضفت له من التجدد والتنوع ما أکسب القصيدة أبعادًا نفسية متداخلة ومتباينة أحيانا، وهذا – ربما – ما قصده وعي الشاعر أو لاوعيه حينما کان يلبس الألفاظ أو اللغة عباءات جديدة المعني تتفق مع الحالة النفسية له، وتختلف مع ظاهر اللفظ، وحديث الحب أو الرضا أو الدمع کما رأينا في استهلال النص من قبل. وهذا ما وضح في هذا البيت الذي يؤکد امتلاک النص لقاموس لاوعي نفسي يختلف عن قاموس النص الظاهر، ويربط بين الحب، والجفاء، بين الهدوء والقلق، ومن بين خيوط النهار تنطلق أستار الليل والقلق
لا أَحسَبُ الدَّهرَ يُبلي جِدَّةً أَبَداً وَلا تُقَسِّمُ شَعبْاً واحِداً شُعَبُ([32])
فالشاعر يصف نفسه بالغفلة والغرة، حيث أمن الدهر، والحب والمرأة، وصدق وعده الکاذب، فتاهت نفسه، وتشتت، وقاست أکثر مما کانت تقاسي من قبل، وزاد القهر النفسي، وازدادت أسبابه، فبدلا من کون الدمامة والقبح قهرًا وصدًا، إذا بالمرأة والحب نوع جديد من أنواع القهر، تتلبس الشاعر، وتشتت نفسه، ويدفعه ذلک للانزواء النفسي المرتبط بالموات النفسي والعقلي، إن الشاعر بوعيه قاصدًا أو بلاوعيه موجهًا، قد جاء بلغة جديدة، تمنح النص مضامين مختلفة عن قاموس النص الظاهري، فمع ازدياد القهر والشتات، إذا به يعود لمية مرة أخرى، لکنه يعود ليؤکد عبر لغته، ألفاظه، عباراته اللاواعية، صعوبة حياته في ظل وجود الحب فيقول:
زارَ الخَيالُ لَمَيِّ هاجِعاً لَعِبَتْ بِهِ التَّنائِفُ وَالمهرِيَّةُ النُّجُبُ([33])
لقد بدت حياته قفرًا، وحبه خيال نائم سرعان ما استيقظ منه على تنائف النفس، والجمع في الکلمة يؤکد کثرة التيه النفسي، الذي يعيشه الشاعر عندما يفقد الإنسان قدرته على السير / البقاء في القفار، ويزداد فوق هذا أن يضل طريقه ويبقى تائهًا رافضا للبقاء والرحيل، ولا يملک للخروج من القفر النفسي سبيلا، هکذا انتهت قصة الحب، وبدت المحبة المخلِّصة سببًا في توالي النکبات النفسية.
(3)
يختتم الشاعر مشهده العاطفي ووصفه لمحبوبته بالانتقال إلى الحديث عن الجمل / الناقة، وهذه مفارقة نفسية واضحة، فالشاعر أراد بهذا الانتقال من مشهد الحب إلى مشهد الرحلة والجمل التوحد مع عناصر بيئته، والربط بينها وبين نفسه، ولأن الحب رحلة نفسية للشاعر، فلابد أن تنتهي الرحلة مثلما ينتهي الجمل برحلته إلى الإرهاق والتعب والتشتت، وعدم المقدرة على المواصلة، فالشاعر بتوحده مع بيئته يعلن عن رغبته في إيجاد حيل دفاعية نفسية، تساعده على استمرار رحلته، للطموح والحياة، ورفضه للموت، رغم ما يبدو فيها من إرهاق ونصب، وربما قهر نفسي من طول الرحلة وعدم جدواها.
تَشکو الخِشاشَ وَمَجرى النَسعَتَينِ کَما أَنَّ المَريضُ إِلى عُوّادِهِ الوَصِبُ([34])
يصف الشاعر الناقة هنا بالمجهدة المرهقة، التي تعاني النصب والألم الشديد، فتبدو مريضة مقهورة، يحيط بها ما يدفعها إلى التوقف عن الإبحار في رحلتها، ويربط بينها وبين الجمل الذي هو رمز للموت عند العربي القديم، الذي ارتبط – دوما – بنقل الجرحي المشرفين على الهلاک.
کَأَنَّها جَمَلٌ وَهْمٌ وَما بَقِيَتْ إِلاّ النَحيزَةُ وَالأَلواحُ وَالعَصَبُ([35])
إن هذا الربط بين الناقة التي ترمز للخير والفأل الحسن، وبين الجمل نذير الشؤم عند العرب، يؤکد الاضطراب النفسي عند الشاعر، ويؤکد البحث عن وسائل دفاعية، وحيل نفسية يهجر بها حاله، ويقضي بها على آلامه؛ فتتداخل الصور عنده وتضطرب، وتراوح بين الخوف والرجاء، بين الناقة والجمل، بين الحب والقهر العاطفي، موظفًا توحده التام مع الطبيعة من حوله، وکأنها سبب شقائه وفيها أيضا ما يتخذه دثارًا إنسانيًا ونفسيًا للخلاص من القهر، ومواصلة الرحلة نحو الطموح والأمل، فيؤکد ذلک بقوله:
لا تُشتَکي سَقطَةٌ مِنها وَقَد رَقَصَتْ بِها المَفاوِزُ حَتّى ظَهرُها حَدِبُ([36])
فهو يعود مرة أخرى إلى الأمل / الطموح / الرجاء متوحدًا مع صورة الناقة، مؤکدا أنه لا تشتکي، لا ترهق، إنما المفاوز / القهر النفسي / البيئة هم الذين دفعوها وألجئوها إلى حالها، الذي تبدو عليه، رغم قوتها، وجلدها، وجمالها، وهو بهذا يتوحد مع صفاتها الحسنة رافضًا أن يکون الفشل بسبب ضعفه أو ضعفها، أو عدم أصالته أو عدم أصالتها، أو عدم قدرته وقدرتها، إنما جاء هذا جراء البيئة القاهرة التي تسعى للنيل منهما: الناقة / الشاعر. فهو وناقته مثل السيف لا رهق ولا نصب.
تَخْدي بِمُنخَرِقِ السِّربالِ مُنْصَلِتٍ مِثلِ الحُسامِ إِذا أَصحابُهُ شَحَبوا([37])
لقد توحد ذو الرمة مع بيئته والطبيعة من حوله، واستعاد ذاکرته الجمعية، فبدا مثل جلجامش الطموح، الرافض للموت، الباحث عن عشب الخلود الذي يتخلص به من کل آلام الموت والقلق والخوف، وقهره الإنساني، ولم يفقد الأمل مطلقا، فکان إيزيس التي طافت کل أرجاء مصر لتجمع أشلاء أوزوريس لتهب له الحياة من جديد، لقد أراد الشاعر أن يکمل رحلة البحث عن الخلاص من الموت / القهر النفسي الذي يعانيه جراء فشله العاطفي، ودمامته، فظل يلهث خلف الأنوثة الممجدة القادرة على رفع القهر ومقاومة الموت بالحياة، وإزاحة الصراعات النفسية من مخيلته؛ ليصل للنموذج الأمثل، لقد کان على ذي الرمة أن يتغلب على تجاهل الخلفاء والأمراء والنقاد، وأن ينسى أو يتناسى صورته، وأن يسمو فوق قهره حتى يدرک حلمه وطموحه نحو الخلود، والخلود هنا ليس الخلود بالجسد، إنما الخلود بالروح والذکرى والتکريم، ورغم کل ما عاناه، فإن روحه المتألقة ظلت في بائيته تسعى للخلود ، وبلوغ عشب الحياة مع جلجامش، أو استعادة روح أوزوريس مع إيزيس أو الفوز بالفردوس المتمثل في المحبوبة مية.
لقد کانت المرأة عند ذي الرمة " إقرارًا واعترافًا به، يريد أن يکون الشيء الذي يتجه إليه طلب المرأة، وهذا المعنى يظهر في قول "لاکان": رغبة المرء رغبة الآخر، إنه يبحث عن رغبة الآخر فينا، وبهذا يتحقق وجودنا الآدمي، کما يقول هيجل. فالرغبة لا تکون إنسانية إلا إذا اتجهت رغبة المرء – لا إلى الجسد- ولکن إلى رغبة الآخر، بمعنى أن تکون رغبته أن يکون مرغوبًا، أو محبوبًا أو بعبارة أخرى ألا يراه الآخر إلا حيث تکون قيمته الآدمية أي أن الرغبة الإنسانية- عند ذي الرمة – برمتها هي آخر الأمر شيء يأتي من الرغبة في التعرف الذي ينتهي بالاعتراف، فالمرأة عند العربي – ذي الرمة – مرآة"([38]) يرى من خلالها نفسه ويتخلص بها من قهره، وبدلًا من أن يرى في المرآة دمامته يرى بها " مية " وجمالها کما وصفها في شعره السابق.
(4)
يکاد يجزم علماء النفس على أن نبوغ الشاعر وإبداعه يعود إلى تلک العلاقة التي تربطه ببيئته أو مجتمعه سواء، أکان رابطًا إيجابيًا أو سلبيًا، وهذا ما يدفع إلى تطبيق القاعدة السيکولوجية، التي تنادي بأنه لا يمکن تفسير أية ظاهرة إبداعية عند الشاعر أو الفنان أو المبدع " أيا کان إبداعه بمعزل عن محيطها العام أو الخاص، لذلک فالبحث يفترض أن الصراع الإنساني الذي تتعرض له نفسية الشاعر / المبدع يبدو متعارضًا أو متوائمًا مع أهدافه الخاصة والعامة، وبين بيئته أو مجتمعه هو الدافع الرئيس نحو الإبداع والعبقرية الشعرية لدى الشاعر، ومن ثم فإن صراع ذي الرمة مع واقعه " ثلاثية قهره النفسي الدمامة، القهر العاطفي، تجاهل الأمراء والنقاد" ومجتمعه هو الذي دفعه إلى الإبداع والانطواء والنفور النفسي والقلق الذي بدا واضحًا في بائيته.
يرى فثاوليس R.Hthouless أن الخطوة الأولى نحو تعليل الإبداع الفني سواء أکان إبداع قصيدة أم إبداع صورة أم کان غير ذلک، هي الکشف عما شهده الشاعر من نقص في بيئته، وکيف دفعه شعوره بهذا النقص إلى تفقد الحل الذي يرضيه، ويقرر أن الإبداع نشاط اجتماعي من بعض نواحيه، وأن الفنان إنما يريد أن يوقظ بعض استجابات فيمن يشهد فنه، ويرى کودول C.Caufwell أن حجر الزاوية في تفهمنا للإبداع الفني هو تتبع عملية التغيير التي يمارسها الشاعر بالنسبة لجموح الأنا المحيطة به(...) فالفنان يقصد إلى التغيير في وجدان أبناء مجتمعه، والشيء الذي ييسر لهذا التغيير أن يأخذ مجراه، هو وجود تشابه بين أحاسيسنا نحن أبناء المجتمع الواحد"([39]) وهذا ما وضح في بائية ذي الرمة التي عبر من خلالها عن سطوة الأنا المحبطة القاهرة له، واستخدم بوعي منه أو بلا وعي في تعبيره عن ذاته المقهورة، تلک الأدوات التي تربط بينه وبين مجتمعه الذي سيشعر به وبألمه من خلال تلک الأدوات الموظفة في النص، فاستخدم الشاعر التوحد التام مع بيئته الطبيعية؛ ليستنطق ذاته المقهورة، من خلالها ويعبر بها، ومن ظواهر بيئته التي توحد معها الشاعر، الثور الوحشي الذي رسم ذو الرمة به وله لوحة فنية بديعة، عبرت عن ذاته عبر هذا التوحد. وقصد وعي ولاوعي الشاعر برسم صورته متوحدًا مع صورة الثور الوحشي إلى الاستفادة من القيمة الأسطورية والنفسية للثور" ويسعفنا التفسير الأسطوري لقصة الثور الوحشي في الشعر الجاهلي – تابعه ذو الرمة- بتفسيرات تسهم في إلقاء الضوء على تکرار عناصر بعينها في هذه القصة، وهي تفسيرات تربط في مجملها بين الثور ذلک المعبود القديم بوصفه رمزًا على الإله القمر، ومن ناحية بين المطر وصناعته،والخصوبة والجفاف من ناحية أخرى. يبدو أن الأساطير المکتملة المفسرة للعلاقة بين الثور ومطاردة الکلاب له بهذا الشکل المتکرر المتواتر قد ضاعت، وإن کان الشعر تمکن أن يکشف بمساعدة بقايا الأساطير والأخبار عن طبيعة العلاقة بين هذه العناصر المختلفة، التي سرعان ما تحولت إلى تقليد فني، يحرص معظم الشعراء على احتذائه، على الرغم من ضياع الأصل الديني المفسر له، فقد کان الثور على سبيل المبالغة إلها للمطر والبرق والعواصف الرعدية .. وهو إله يتميز بالعنف والقسوة مثلما يتميز بالقدرة التناسلية والخصوبة"([40]) إن تلک الصورة الأسطورية للثور تفسر لنا لماذا لجأت الذات الشاعرة لذي الرمة إلى التوحد مع الثور الوحشي؟، فالشاعر والثور متوحدان في القدسية الأسطورية عند العرب القدماء، وفي القدرة الکبيرة على الخصوبة والتناسل، تناسل الموهبة الشعرية عند الشاعر، وکذلک کلاهما محاط بمخاطر المتربصين من أبناء زمانهم وبيئتهم، کلاهما يکاد طموحه وزهوه يدفعه للهلاک أو القهر النفسي کما هو الحال عند ذي الرمة
تَقَيَّظَ الرَّملَ حَتّى هَزَّ خِلْفَتَهُ تَرَوُّحُ البَردِ ما في عَيشِهِ رَتَبُ
رَبْلاً وَأَرطْى نَفَت عَنهُ ذَوائِبُهُ کواکبُ الحرِّ حَتّى ماتَتِ الشُهُبُ
أَمسى بِوَهْبينَ مُجْتازاً لِمَرتَعِهِ مِن ذي الفَوارِسِ يَدْعو أَنفْهُ الرِبَبُ([41])
نحن أمام لوحة فنية طبيعية بالغة الدقة، رسمها شاعرنا ذو الرمة بلغة ذات دلالات نفسية عميقة، موظفًا التوحد النفسي العميق فيها، فبدا الرابط قويًا بين الثور / الطبيعة / ذي الرمة، فکلاهم ظل للآخر، أو هو الآخر نفسه، لا نستطيع أن نفرق بينهم، فالثور / ذو الرمة / الطبيعة جميعهم يعج بالخصوبة والترابط، فالبيئة بکل ما فيها تسخر نفسها لحماية الثور / ذي الرمة، والحنو عليه، وتؤهله للحياة الطموح " تَدعو أَنفْهُ الرِبَبُ".
أمسى الشاعر / الثور الوحشي باحثًا عن الحياة يجتاز مواطن الرعي في عالم هانئ، ليس في عيشه مشقة. حتى إذا اکتنفته أثباج الرمال التي تشبه طيات الثوب أرخى الليل عليه رداءه، وضمه الظلام تحت شملته، کما ضمه – ضمها- وحنا عليه / "عليهما" هدب الأرطي وانهمل عليه المطر فمال إلى شجرة أرطي کثيب متراکم ذات دفء ومحتجب تقيه البرد القارس، والمطر المنهمر وعيون الأعداء([42]).
ضَمَّ الظَّلامُ عَلى الوَحشِيِّ شَملَتَهُ وَرائحٌ مِن نَشاصِ الدَّلْوِ مُنْسَکِبُ
فَباتَ ضَيفًا إِلى أَرطاةِ مُرْتَکِمٍ مِنَ الکَثيبِ بِها دِفءٌ وَمُحتَجَبُ
مَيلاءَ مِن مَعْدِنِ الصيرانِ قاصِيَةٍ أَبعارُهُنَّ عَلى أَهدافِها کُثَبُ([43])
جاء الظلام بکل ما فيه من ثنائية الحماية / الخوف القلق، فهل کان مجيء الليل على الشاعر / الثور الوحشي نعمة أم نقمة أم نذيرًا بقدوم الخطر المتربص بهما.
کَأَنَّما نَفَضَ الأَحمالَ ذاوِيَةً عَلى جَوانِبِهِ الفِرْصادُ وَالعِنَبُ
کَأَنَّهُ بَيتُ عَطّارٍ يُضَمِّنُهُ لَطائِمَ المِسکِ يَحوْيها وَتُنْتَهَبُ
إِذا اِستَهلَّتْ عَلَيهِ غَبيَةٌ أَرِجَتْ مَرابِضُ العينِ حَتّى يَأْرَجَ الخَشَبُ([44])
لقد کان الثور يحتمي بشجر الأرطي الحاني، وهذا الشجر هو في حقيقته بالنسبة لذي الرمة شعره وموهبته ونبوغه الذي يستدفئ به من ثلاثية القهر النفسي التي کانت تتربص به ليل نهار. بل تجاوز هذا ليصبح شعره أشجار الطبيعة الخاصة بالثور الوحشي "بيت عطار يودع فيه لطائم المسک"([45]) ويدفعها للدفاع عنه ورعايته في أوقات الشدة والقهر، تنتشر روائحها الطيبة تغذي آذان / أنوف المستمعين المستنشقين، فشعره لا يسمع فقط، بل يستنشق بالأنف، ويبصر بالعين.
تَجْلو البَوارِقُ عِن مُجْرِمِّزٍ لَهِقٍ کَأَنَّهُ مُتَقَبّي يَلْمَقٍ عَزَبُ
وَالوَدْقُ يَستَنُّ عَن أَعلى طَريقَتِهِ حَوْلَ الجُمانِ جَرى في سِلکِهِ الثُقَبُ
يَغْشى الکِناسَ بِرَوْقَيْهِ وَيَهدِمُهُ مِن هائِلِ الرَملِ مُنْقاضٌ وَمُنْکَثِبُ
إِذا أَرادَ اِنکِناساً فيهِ عَنَّ لَهُ دُونَ الأَرومَةِ مِن أَطنابِها طُنُبُ
وَقَد تَوَجَّس رِکزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ بِنَبأَةِ الصَّوتِ ما في سَمعِهِ کَذِبُ
فَباتَ يُشئِزُهُ ثَأدٌ وَيُسْهِرُهُ تَذَاؤُبُ الريِّحِ وَالوَسواسُ وَالهَضَبُ([46])
يتجلى في اللغة الثور منقبضًا، واللغة خير من يفصح عن ذلک فإيقاع کلمة " مجرمز " يمثل الثور في تجمعه وانقباضه أبيض اللون کأنه إنسان، يرتدي يلمقًا أبيض ... وبياض الثور هنا فيه کشف لجوانب الصورة، فالبياض قيمة في حد ذاته في أکناف هذه الظلمات به يتميز الثور، ويتحدد مع وميض البرق، وتتصل الأرض والسماء، وهو عزب أي منفرد لا صاحب له([47]) إنه الشاعر المتدثر بالأرطأة والليل والنور واللون الأبيض، فاللون الأبيض هو نفس الشاعر الصافية، النقاء والبراءة والمثالية التي يريد أن يسقطها على نفسه، أو أن يلبس عباءتها، والوحدة وحدته ووحدة نفسه التي لا تجد أنيسًا ولا رفيقًا ولا حبيبًا، والانقباض والانبساط هو حاله المراوح بين الخوف والقلق والهروب النفسي وبين الأمل والطموح والرجاء والرغبة في الخلاص من الموت النفسي إلى رحابة الحياة والخلود بالشعر والصعود بالنبوغ.
لکن رغم کل هذه الصفات فإن نفس الشاعر / الثور الوحشي تنتظر الشر القادم في صورة الصياد / التجاهل وثلاثية القهر وغدر الدنيا، فکلما أعطته الدنيا أملا سرعان ما قتلته مرة أخرى، وأحاطته بقهرها، وهذا ما يبدو جليا في صورة الصائد وکلابه التي تحيط بالثور من کل جانب، لکن اللافت للنظر هنا هو صورة هذا الصائد.
غَدا کَأَنَّ بِهِ جِنّاً تَذاءَبُهُ مِن کُلِّ أَقطْارِهِ يَخْشى وَيَرْتَقِبُ
هاجَت لَهُ جُوَّعٌ زُرْقٌ مُخَصَّرَةٌ شَوازِبٌ لاحَها التَّغْريثُ وَالجَنَبُ
غُضفٌ مُهَرَّتَةُ الأَشداقِ ضارِيَةٌ مِثلُ السَّراحينِ في أَعناقِها العَذَبُ
وَمُطْعَمُ الصَّيدِ هَبّالٌ لِبُغيَتِهِ أَلفى أَباهُ بِذاکَ الکَسْبِ يَکْتَسِبُ
مُقَزَّعٌ أَطلَسُ الأَطمارِ لَيسَ لَهُ إِلاّ الضَّراءَ وإِلاَّ صَيَدها نَشَبُ([48])
يلازم القلق الشاعر / الثور الوحشي، لأنه يعي جيدًا حال الدنيا، حيث لا أمان لها، فسرعان ما تکشف عن نفسها، وتتداعى عليه بکل قوة، فهي کلاب صيد " زرق العيون، متقلبة الآذان، واسعة الأسواق، يابسة الجلود، ضارية، کالذئاب، تطوق أعناقها قلائد من الجلد([49]) إن تلک الصفات صفات الدنيا المتربصة بالشاعر بسمائها الزرقاء، باتساعها بيبس أرضها، کما تتربص الکلاب الجوّع بالثور المقدس، وما يؤکد کون هذه الصفات صفات الدنيا صورة الصائد، فالدنيا بلفظتها تجيء من الدناءة والقبح والعوز للخير، وهي ذاتها الصورة الفنية التي رسمها ذو الرمة لهذا الصائد، فهو نکرة – مثل الدنيا- " مقزّع " أطلس الثياب" هبال لفرصته" وهذه صفات الدنيا وحالها.
إن ما يزيد اللوحة النفسية التي رسمها الشاعر لنفسه وللثور والدنيا تأکيدًا على ما في نفسه من صعوبات تقتل الأمل والطموح والحب هي صورة العبد الحبشي في البيت التالي:
کَأَنّهُ حَبَشِيٌّ يَبْتَغي أَثَراً أَو مِن مَعاشِرَ في آذانِها الخُرَبُ([50])
رغم کون هذا البيت يأتي ضمن اللوحة الفنية لصورة الظليم ووصف الشاعر له، فإنه يوحي بأکثر من دلالة نفسية عميقة، تأصل القهر النفسي للشاعر، ومعاناته من الدنيا؛ لأنها مثل العبد الحبشي لا هم لها إلا الالتهام، التهام الطموح والأمل، وقتل الحب في الأنفس، لقد مثَّل هذا العبد الحبشي / الدنيا کل المعاني الإنسانية المثالية داخل ذات ذي الرمة، فبدأ الشاعر محطمًا أحيانا کسير النفس لا يملک الخلود الذي يبتغيه، والخلود هنا هو الشعر والحب الذي يتعين معه الإنجاب وتجديد الحياة بالخصوبة الإنسانية. " وصورة الحبشي والسندي التي رسمها الشاعر تعکس حالة عبودية تکشف عنها هيئتهما، لذلک فمن يخضع لهما يفقد ذاته، فيعدو نکرة لا يعرفه أحد، وهذا ما يرفضه ذو الرمة رفضًا قاطعًا، ويسعى لرفع رأسه بالابتعاد عن الالتصاق بالأرض؛ ليعود إلى مجده وخلوده وسعادته، ويستعيد الأصل الکريم.
إن صورة الحبشي بها مفارقة فنية، فالعبد کما ذکرت هو الدنيا، وکذلک ربما تشير إلى نفس الشاعر المتطلعة إلى ما في الدنيا من نعم ومتع لا يقدر على الحصول عليها، فيخضع ويلين، تستعبده الدنيا، لکن النفس المتمردة ترفض هذا وتعاود البحث عن نفسها مرة أخرى، خاصة وأن العبودية والحبشية وجهان للضياع والتنکير.
حَتّى إِذا دَوَّمَت في الأَرضِ أَدْرَکهُ کِبرٌ وَلَو شاءَ نَجّى نَفْسَهُ الهَرَبُ([51])
إن الشاعر الکريم الأصل والنسب مثل الثور المعبود المقدس يرفض المذلة والهوان، الذي تفرضه عليه الدنيا / کلاب الصيد وتأبى نفسه العزيزة إلا قبول التحدي والدخول في معرکة الخلود" ففي هذا التکالب على الظفر - حتى إن الکلاب لتبدو مدوّمة في طلبه - يدرکه الکبر، وتأخذه الأنفة، في وقت لو تمکن من الهرب لنجا بنفسه. لقد أبى العار فانحرف يمينا بالقرب من کثيب الرمل ليکر على الکلاب / الدنيا في مکان هو أسرع فيه منها وأقدر على المصاولة، فکف عدوه، والکلاب خلفه تنتحب من الإجهاد([52]) إن الشاعر / الثور يستعيد ذاکرة الطموح والأمل فيستجمع شجاعته وقوته ويهاجم أعداءه، کلاب الصائد / الدنيا / القهر النفسي ويطعنهم بشعره وموهبته الخالدة.
(5)
فَکَفَّ مِن غَربْهِ وَالغُضفُ يَسْمَعُها خَلفَ السَّبيبِ مِنَ الإِجهادِ تَنْتَحِبُ
حَتّى إِذا أمَکَنتهُ وَهوَ مُنحَرِفٌ أَو کادَ يُمکِنُها العُرقوبُ وَالذَنَبُ([53])
إن الشاعر يؤکد طموحه وذاته المتألقة عبر توحده مع الثور المقدس المعبود العربي القديم، ولمزيد من المفارقة الفنية والنفسية يجمع الشاعر في لوحاته الفنية صورتين متناقضتين متقابلتين للثور المعتز بذاته المتعالي وللظليم المتواضع الذي يلتصق بالأرض ولا يهتم إلا بنباتها ومتعها ولهوها الفاني، يکتفي بالقشور ولا يتطلع للسماء، لا يسعى للمجد والخلود ولا لتوظيف أدواتهما لينال سعادة أوفر ولهوًا أعظم ونعيمًا متصلًا، فيبدو وکأنه عبد للدنيا ودناءتها، وهذه اللوحات المتقابلة تؤکد نزعة الشاعر للخلاص من قهر الدنيا والتغلب عليها، وهزيمتها بالخلود عبر الشعر الذي هو إلهام إلهي له يستطيع به ومن خلاله الخلود والتغلب على ثلاثية قهره النفسي.
أَلهاهُ آءٌ وَتَنُّومٌ وَعُقْبَتُهُ مِن لائِحِ المَروِ وَالمَرعى لَهُ عُقَبُ
يَظَلُّ مُخْتَضِعا يَبْدو فَتُنْکِرُهُ حالا وَيَسْطَعُ أَحيانا فَيَنْتَسِبُ
کَأَنّهُ حَبَشِيٌّ يَبتَغي أَثَراً أَو مِن مَعاشِرَ في آذانِها الخُرَبُ
هَجَنَّعٌ راحَ في سَوداءَ مُخْمَلَةٍ مِنَ القَطائِفِ أَعلى ثَوْبِهِ الهُدَبُ
أَو مُقْحَمٌ أَضعفَ الإِبطانَ حادِجُهُ بِالأَمسِ فَاِستَأْخَرَ العِدلانِ وَالقَتَبُ
أَضَلَّهُ راعِيا کَلبِيَّةٍ صَدَرا عَن مُطلِبٍ وَطُلى الأَعناقِ تَضْطَرِبُ([54])
إن المفارقة النفسية عبر التضاد والتقابل بين صورتي الثور والظليم أکدت سعي الشاعر للتغلب على الدنيا وقهرها، بکل ما يملک من أدوات ومواهب، فهو يقول عبر لوحة الظليم الشعرية أنه يمتلک أدوات النصر کلما هاجمت الدنيا طموحه وأثقلت همومها أمامه، ازداد رغبة وإصرارا في قهرها وتحقيق الخلود.
حَتّى إِذا کُنَّ مَحْجوزاً بِنافِذَةٍ وَزاهِقاً وَکِلا رَوقَيهِ مُختَضِبُ([55])
إنه يمثل قوى الکون الخيرة، تحارب الشر وترجمه، وما أن تبدأ المعرکة حتى دحر الشاعر / الثور خصومه بنيران هي رجوم للشياطين التي هي دليل من دلائل الرشد والهداية([56])
لقد حرص ذو الرمة على أن تخرج صوره إخراجًا محکمًا دقيقًا، يعنى فيه باستقصاء جزئياتها وتفاصيلها؛ حتى يتحقق له ما يريده من تکامل فني تبدو معه عملًا فنيًا متکاملا تتعدد فيه الألوان والخطوط ويستوفي کل لون، وکل خط خطهما من العناية والإجادة والإتقان .... وليست العناية بالجزئيات والتفاصيل هي کل ما يلفت النظر في الصورة الفنية عند ذي الرمة، وإنما هناک حرص واضح على اختيار الأوضاع التي تعرض فيها هذه الصورة، لتبرز صوره في أجمل مظاهرها وأبهى مجالها وفي أکثر من صورة ترى تلک البراعة الفائقة في اختيار الزوايا وانتقاء الأوضاع على نحو ما نرى في هذه الصورة التي رسمها([57]) للحمر مع مجيء الصيف ورغبتها في نيل ما تسعى إليه، وهو بهذه الصورة يعکس لنا نفسه القلقة البائسة أحيانا، فبرغم کل ما عرضه الشاعر من لوحات فنية عکست نفسه الطموح العزيزة التي تأبى الذل والهوان والهرب؛ فإن صورة الحمر هنا تعکس التناقض النفسي بداخله والقلق والتوتر والخوف المجاور للثبات النفسي والشجاعة والقوة والعزة والرغبة في الخلود
حَتّى إِذا مَعْمَعانُ الصَيفِ هَبَّ لَهُ بِأَجَّةٍ نَشَّ عَنها الماءُ وَالرُّطُبُ
وَضَوَّحَ الَبقلَ نَأّجٌ تَجيءُ بِهِ هَيْفٌ يَمانِيَةٌ في مَرِّها نَکَبُ([58])
إن صورة الصيف هنا تعکس هذا التناقض النفسي بداخله، فالصيف ارتبط" في ذهن الجماعة العربية بالنتاج وارتبط کذلک بالحر وسموه قيظًا والقيظ صميم الصيف ويکنى عن الشدة والشر بالحر"([59]) فهذا الاختلاف يعکس نفسية الشاعر التي تجمع بداخلها النقيضين، العزة والطموح والثبات والشجاعة، وانکسار النفس وخيبة الأمل والخوف والقلق.
إن الشاعر في لوحة فنية معبرة نفسيًا تتميز بکثافة الدلالات العميقة مع الحمر يعلن عن نفسه الکسيرة، مؤکدًا أنه لا يقصد اللوحات الفنية التي رسمها عبر قصيدته في ذاتها، إنما هي تعبير صادق عن نفسه، حيرته وقلقه، طموحه وأمله، قوته وضعفه.
کَأَنَّهُ مُعْوِلٌ يَشْکو بَلابِلَهُ إِذا تَنَکَّبَ من أَجوازِها نَکِبُ
کَأَنَّهُ کُلَمّا اِرفَضَّتْ حَزيقَتُها بِالصُّلبِ مِن نَهْشِهِ أَکفالَها کَلِبُ
کَأَنَّها إِبِلٌ يَنْجو بِها نَفَرٌ مِن آخَرينَ أَغاروا غارَةً جَلَبُ([60])
- هنا تتجلى العلاقة بين الإنسان والحمر، هنا يتوحد الشاعر نفسيًا مع الحمر الوحشية، يبکي معها، ويشکو من الوحدة والفرقة في لحظات هجوم عواتي الدنيا، فيبدو الشاعر کما تبدو الحمر مشتتا بين الخوف والرجاء، بين الهرب والثبات، بين الفزع والطمأنينة بين الرغبة في الخلود والموت.
إنها نفس الشاعر ووجوده وأمله وصراعه مع الدنيا، البيئة، التجاهل، الدمامة، وخسارة المحبوبة، إنه التوهج الذي ينطفئ تحت وطأة القهر، إنه قهر الدنيا، الذي يسحقه الأمل والخلود بالموهبة، وتسحقه العواتي والصعاب، إنه شاعر الخلود بالکلمة، إنه ذو الرمة.
الخاتمة
يقول فرويد إن الشعراء هم أول من سبقوه إلى استخدام اللاشعور واکتشافه، وذو الرمة يؤکد تلک المقولة، ففي بائيته الشهيرة لا ينطق ذو الرمة شعره واعيًا به، إنما الناطق الحقيقي والمبدع فيها هو اللاوعي/ اللاشعور الذي حرک الشاعر، ودفعه لتوظيف تلک اللوحات الفنية المبدعة، التي رُسمت بريشة فنان، ولسان شاعر مبدع، وعقل مفکر متأمل کبير. لقد ترجمت البائية کل ما کان يدور في لاوعي الشاعر الخاص ولاوعيه الجمعي، وبدا ذلک واضحًا في کثير من صوره الفنية، ويستطيع البحث أن يؤکد أن الشاعر کان يعبر عن الآخر بداخله، أو بمعنى آخر، الآخر المظلوم المقهور نفسيًا بداخله، هذا الآخر الذي حاول النفاذ إلى الدنيا عبر موهبة الشاعر الفنية؛ لذلک جاءت نتائج البحث لتؤکد التالي:
کل هذا يؤکد أن الشاعر في قصيدته کان يصارع ثلاثية القهر النفسي (الدمامة، الفشل العاطفي، الشعور بالتجاهل) التي أراد بها الخلود، وتحقيق الرغبات المکبوتة فمن وجهة نظر البحث يعد ذو الرمة (في بائيته) شاعرًا من شعراء الرغبة الکبار ولا أقصد هنا الرغبات المادية فقط، إنما الرغبات المادية والمعنوية والنفسية، وجاءت صور الطبيعة والصحراء؛ لتؤکد هذا التيه النفسي وهذه الرغبات التي کان يريد تحقيقها.
[1] ) هو غيلان بن عقبة بن بهيش بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن أبي ربيعة بن ساعدة بن کعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة ابن ملکان بن عدي بن عبد مناه بن أدِّ بن طانجة بن إلياس بن مضر بن أد بن معد بن عدنان. وکان يُکنى أبا الحارث من کبار شعراء العصر الأموي.
[2]) أحلام الخيال الشعري مستويات الدلالة في شعر ذي الرمة د. حسنة عبد السميع الهيئة المصرية للکتاب 1998م ص 132
[3]) علم النفس في القرن العشرين ج 1 د. بدر الدين عامود منشورات اتحاد الکتاب العرب دمشق 2001 م ص 145
[4] ) راجع في ذلک د. مصطفى سويف الأسس النفسية لللإبداع الفني دار المعارف ط 4 ص 74 : 75، وکذلک د. کمال وهبي ، د کمال أبو شهدة مقدمة في التحليل النفسي دار الفکر العربي بيروت ط1 1997م ص 50 : 52
[5]) مطلع القصيدة العربية د. عبد الحليم حنفي الهيئة العامة المصرية للکتاب 1987م ص 3
[6] ) المتخيل الثقافي ونظرية التحليل النفسي المعاصر د. السيد إبراهيم مرکز الحضارة العربية الطبعة الأولى 2005 م ص 14
[7]) ديوان ذي الرمة شرح الإمام أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي صاحب الأصمعي ص9
[8] ) راجع في ذلک مجلة النجاح للأبحاث المجلد ( 18 ) عدد ( 1 ) 2004م محمد دوابشة " بائية ذي الرمة بين القدماء والمحدثين ص 3
[9]) مطلع القصيدة العربية د. عبد الحليم حنفي ص 6
[10]) اللغة الکونية في جماليات الفکر الشعري في بائية ذي الرمة د. صالح بن سعيد الزهراني مطبوعات جامعة أم القرى 1423هــ 2002م ص 31
[11]) المتخيل الثقافي ونظرية التحليل النفسي المعاصر د. السيد إبراهيم ص 18
[12]) التحليل النفسي والأدب تأليف جان بيلمان نويل ترجمة حسن المودن المجلس الأعلى للثقافة 1997م ص 28
[13]) جاک لاکان وإغواء التحليل النفسي إعداد وترجمة عبد المقصود عبد الکريم المجلس الأعلى للثقافة ص 1999 م ص 25
[14]) ديوان ذي الرمة ص 15 : 19
[15] ) ديوان ذي الرمة ص 22
[16]) الطوطم والتابو سيجمون فرويد ترجمة بو علي ياسين دار الحوار للنشر والتوزيع د1 1983م ص 106
[17]) أحلام الخيال الفني د. حسنة عبد السميع ص 39
[18]) الديوان ص 23
[19]) ديوان ذي الرمة ص 23 : 29
[20]) أحلام الخيال الفني د. حسنة عبد السميع ص 122
[21]) المرجع السابق ص 122
[22] ) ديوان ذي الرمة ص 29
[23]) الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة د. مصطفى سويف دار المعارف ط4 ص 74
[24]) المرجع السابق ص 76
[25] ) ديوان ذي الرمة ص 33
[26] ) ديوان ذي الرمة ص 35
[27]) راجع الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة د. مصطفى سويف ص 76
[28] ) ديوان ذي الرمة ص 37
[29] ) ديوان ذي الرمة ص 38
[30]) أحلام الخيال الفني د. حسنة عبد السميع ص 41
[31]) جاک لاکان وإغواء التحليل النفسي ص 40
[32] ) ديوان ذي الرمة ص 38
[33] ) ديوان ذي الرمة ص 40
[34] ) ديوان ذي الرمة ص 42
[35] ) ديوان ذي الرمة ص 43
[36] ) ديوان ذي الرمة ص 44
[37] ) ديوان ذي الرمة ص 46
[38]) المتخيل الثقافي د.السيد إبراهيم ص 139
[39]) الأسس النفسية للإبداع الفني د. مصطفى سويف ص 119 : 120
[40]) رمز الماء في الأدب الجاهلي د. ثناء أنس الوجود مکتبة الشباب ص 229
[41] ) ديوان ذي الرمة ص ص 75- 77
[42]) اللغة الکونية في جماليات الفکر الشعري في بائية ذي الرمة د.صالح بن سعيد الزهراني ص 59
[43]) ديوان ذي الرمة ص ص 80- 82
[44]) ديوان ذي الرمة ص ص 84- 86
[45]) المرجع السابق ص 59
[46]) ديوان ذي الرمة ص ص 87- 90
[47]) السابق 62
[48]) ديوان ذي الرمة ص ص 95- 100
[49]) السابق ص 65
[50]) ديوان ذي الرمة ص 118
[51] ) ديوان ذي الرمة ص 102
[52]) السابق ص 67
[53]) ديوان ذي الرمة ص ص 104- 105
[54]) ديوان ذي الرمة ص ص 116- 121
[55]) ديوان ذي الرمة ص 109
[56]) السابق 68
[57]) ذو الرمة شاعر الطبيعة والحب د. علي نجيب عطوي دار الکتب العلمية بيروت ط 1414هـ 1994م ص 172
[58] ) ديوان ذي الرمة ص ص53- 54
[59]) الزمان الدلالي دراسة لغوية لمفهوم الزمن وألفاظه في الثقافة العربية د. کريم ذکي حسام الدين الهيئة المصرية العامة للکتاب 2008م ص 143: 144
[60]) ديوان ذي الرمة ص ص 58- 60
المراجع
أحمد عکاشة. آفاق في الإبداع الفني: رؤية نفسية.- ط1.- القاهرة: دار الشروق، 1422- 2001م. |
|
بدر الدين عامود. علم النفس في القرن العشرين.- ج 1 .- دمشق : منشورات اتحاد الکتاب العرب،2001 م. |
|
ثناء أنس الوجود. رمز الماء في الأدب الجاهلي. القاهرة: مکتبة الشباب، [د.ت.]. |
|
جان بيلمان نويل. التحليل النفسي والأدب/ ترجمة حسن المودن. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1997م |
|
حسن إسماعيل. شعر الخرنق بنت بدر: الرؤية والأداء.- المنيا: دار أبو هلال للطباعة والنشر، [د.ت.] |
|
حسنة عبد السميع. أحلام الخيال الشعري مستويات الدلالة في شعر ذي الرمة.- القاهرة: الهيئة المصرية للکتاب، 1998م. |
|
حسين الحاج حسن. الأسطورة عند العرب في الجاهلية.- بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1988م. |
|
ذو الرمة. ديوان ذي الرمة شرح الإمام أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي صاحب الأصمعي/ تحقيق عبد القدوس أبو صالح.- ط3.- بيروت: مؤسسة الرسالة، 1414- 1993م. |
|
سيجمون فرويد. الطوطم والتابو/ ترجمة بو علي ياسين.- ط1.- دار الحوار للنشر والتوزيع، 1983م |
|
سيجوند فرويد. محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي/ ترجمة عزت راجح، مراجعة/ محمد فتحي.- القاهرة، مکتبة مصر، [د.ت.] |
|
السيد إبراهيم. المتخيل الثقافي ونظرية التحليل النفسي المعاصر. ط1.- القاهرة: مرکز الحضارة العربية، 2005 م |
|
شوقي ضيف. التطور والتجديد في الشعر الأموي.- القاهرة: دار المعارف، 1977م. |
|
شوقي ضيف. الحب العذري عند العرب.- ط1.- القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1419- 1999 |
|
صالح بن سعيد الزهراني. اللغة الکونية في جماليات الفکر الشعري في بائية ذي الرمة. المملکة العربية السعودية: مطبوعات جامعة أم القرى، 1423هــ 2002م. |
|
عبد الحليم حنفي. مطلع القصيدة العربية.- القاهرة: الهيئة العامة المصرية للکتاب، 1987م. |
|
عبد المقصود عبد الکريم. جاک لاکان وإغواء التحليل النفسي. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1999 م |
|
علي البطل. الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري.- ط1.- القاهرة: دار الأندلس، 1980م. |
|
علي نجيب عطوي. ذو الرمة شاعر الطبيعة والحب.- ط14.- بيروت: دار الکتب العلمية، 114هـ 1994م |
|
کريم ذکي حسام الدين. الزمان الدلالي دراسة لغوية لمفهوم الزمن وألفاظه في الثقافة العربية.- القاهرة: الهيئة المصرية العامة للکتاب/ 2008م. |
|
محمد دوابشة. بائية ذو الرمة بين القدماء والمحدثين.- [د.م.] مجلة النجاح للأبحاث والعلوم الإنسانية، مج18، ع1، 2004م. |
|
مصطفى سويف. الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة.- ط4.- القاهرة: دار المعارف، [د.ت.] |
|
مصطفى ناصف. قراءة ثانية لشعرنا القديم.- القاهرة: الهيئة المصرية العامة للکتاب، [د.ت.]. |