Document Type : Review papers
Main Subjects
عندما تطبق علينا الدنيا بنواتها وأعاصيرها، تقف النفس البشرية بين طريقين، إما اغراق النفس في الوجع والألم واجتزاز عذابات الماضي وتقصيص مصائب الحاضر، أو اللجوء من الدائرة مفرغة من الهروب بلا بداية وبلا نهاية، إلى بحر التناسى حيث تترک کل موجة منه تحملک إلى عالم مزيف من الابتسام والضحک، يمنعک ويمنع عقلک الباطن من تذکر واقعه الأليم.
منى عاشور في مجموعتها القصصية "رسائل لن تصل أبدا" تختار عن عمد الطريق الأول لتأخذ القارئ وتدلف به إلى منطقة ثرية في عوالم النفس البشرية والتي تعلى تقنية سردية محدثة "حکى الوجع" خاصة مع عتبة الإهداء إلى الذين يتخطاهم الموت، فتظل أرواحهم معلقة بين السماء والأرض وإذا انتبه القارئ لتاريخ نشر المجموعة نهاية عام 2020 وبداية عام 2021، لربما ساند "مى" في اختيارها حيث الکرة الأرضية کلها تتوجع وتتألم على إثر الضربات الشرسة لجائحة کورونا وموجاتها المتتالية التي ترکت کل بيت وکل عائلة تتألم لفقد حبيب أو صديق.
في مجموعتها "رسائل لن تصل أبدا" تقافزت منى عاشور على الحدود الفاصلة بين " الومضة " و"القصة القصيرة جدا" و"القصة القصيرة"، لتقدم وجبة محدودة المقادير بلا زيادة أو نقصان، وتترک القارئ في معظم الأحيان مسروق اللب سارح في نهايات قصصها والتي جاءت معظمها ذات نهايات مفتوحة تدفع القارئ دفعًا ليتأمل في المغزى الذى تسعى ورائه الکاتبة، حتى تلک القصص ذات النهايات المحددة جاءت أکثرها بنهايات غير متوقعة أو لنقل أنها تشعرک وکأن مازال هناک کلام لم يقال بعد، مازال هناک أحداث خبئتها "منى" عن قارئها، وکأنها ترسل لنا رسالة: توقع ما لا يمکنک توقعه، لاتأمن لهذا العالم ! لا تأمن حتى لحروف القصص التي أمامک، إنها تنهبک وتسرق عقلک ولو للحظات هنا وهناک.
وقد تفاجئت عند البحث عن المجموعة على محرکات البحث أن عنوان المجموعة ظهر کعنوان لعدة مجموعات وکتب أخرى وحتى عدد غير قليل من المنتديات تحمل هذا الاسم "رسائل لن تصل أبدا " وکأن هناک اجماع من أهل هذا العصر على أن الکثير في الرسائل التي تجوب مکنونات نفوسنا قد تضل طريقها إلى مستقبلها ولا تجد غير صفحات الکتب حضنا لها يحميها من ضربات الزمن ويسجلها في ذاکرتنا مهما رفضناها.
المجموعة تضم 17 قصة قصيرة هي " باقى من الزمن دقيقتين"، "الزنزانة المتحرکة“، ”مر الحلوى"، "رسائل نوفمبر"، "کائن حي"، "المفاتيح النحاسية "، "ساعة صفا "، "حلم عزيزة"، "صيد الربيع"، "وحيد"، "صلوات البحر"، "المرايا"، "جورب نابليون"، "عتاب وحنين" "صرخة"، "حتى بعد "، "يوم من الحرية" صادرة عن مؤسسة حورس الدولية.
عتبة المفتتح ترسخ أختيار الکاتبة لحکى الوجع، وفيها توجه حديثها للقارئ بصيغة آمرة "واعلم........" وإن کانت رسالتها لقارئها في المفتتح في تتميز بالوضوح والغموض في آن واحد. فهى تأخذ بيده إلى طريق يتعرف فيه على تفاصيل نفسه ولکن بحرفية، حيث تعمد لأساليب النفي وجمل الصلة فتترک القارئ في حالة رمادية يشعر أنه واعى لکل شيء ولکن في الوقت ذاته يسأل نفسه هل حقًا فهمت قصدها أم أن الأمر أعقد من ذلک؟ فلا يجد مخرجًا سوى أن يسارع في نهم قصصها.
عرض سريع لقصص مجموعة "رسائل لن تصل أبدًا"
في "باقي من الزمن دقيقتان" تنتهى القصة بعبارة "لينطفئ شوقه" لتختصر منى عاشور کل مشاعر الحنين والوجع لشاب يفتقد أمه التي رحلت عن عالمه، تراقبه مني في صباحه الأخير متحسرا على تفاصيل حياته بدون مالکه الحارس؟ لتصفعنا على وجوهنا مع أول قصة، فقد أنهت القصة بوفاة الشاب مصدوما بسيارة ليذهب لها "وينطفئ شوقه".
"مر الحلوى" ترکيبة القصة تشبه القصة الأولى، حيث تمتعک الکاتبة بوصفها الدقيق لغلام محبوب يبيع الحلوى، ثم تقفل أبواب الابتسام في وجهک عندما تفاجئک أن الساردة استوقفها الغلام لأنه يشبه ولدها الذى غرق قبل 5 سنين. "فقد" ثم"فقد" ثم "فقد" ........ إنها حقا "مر" مثل العلقم.
رسائل نوفمبر: لکل واحد فينا قصة لم تنته، مهمة لم تکتمل، رسائل لم ولن تصل أبدا. نعتزل الناس نرفض الاندماج، نتقن دور" الإلتهاء“، حتى تختار الأقدار طريقتها في أن تجبرنا على مواجهة هذه الصرخة التي لم تسکت بداخلنا أبدًا.
کائن حى: مع العنوان تخيلت خيالات سوداوية ومشاعر مرتبکة لکنها کانت بمثابة محطة استراحة من الفقد والألم والحنين. الراوي کائن سکندرى يبحث عن کائن حى آخر يشارکه صباحاته وينتج تفاصيلها، حياته فارغة يشغلها بمراقبة فتاة لطيفة. کقارئ شعرت أنها قد تکون نفسها."منى"
المفاتيح النحاسية: تجربة فقد أخرى ولکنها "عيني عينک" حيث تسجل من خلال السرد بضمير المتکلم تفاصيل فقد بيت العائلة، مرتع الطفولة.
و لأني دارسة لتقنيات الادب السينمائي، تمنيت أن استطع استخدام تقنية المونتاج وقص بعض التفاصيل المؤلمة التى أصرت الکاتبة أن تصل بها إلى درجة متطرفة من الألم وجلد الذات.
تخطت الکاتبة بنية السرد بضمير المتکلم لتعمد لضمير الغائب فى حوار محتويات البيت التى تتعرض للهدم والهتک، ساعد الکاتبة في سرد حکاية وجع الشابة المالکة السابقة للبيت والتى خرجت مهلهلة المشاعر ترمق بعض المفاتيح النحاسية القديمة.
ساعة صفا: أحد أفخاخ منى عاشور، قد تعتقد خطًأ أن القصة تسد تفاصيل يومية متکررة، إلا إنها في حقيقتها "حنين ما بعد الفقد"فقد حبيب أو صديق عزيز وجوده بجوارها. ورغم اشتياقها له، فهى مؤلفة تظهر قوة مصطنعة تکتسبها من تفاصيل حياتها اليومية وعملها وإلحاح دار النشر والکثير من المشاغل.
حلم عزيزة: عزيزة فقدت زوجها في أحد حوادث القطارات، و الکاتبة تسرد من خلال بنية سردية متلازمة کفاحها لزواج البنات والابن الوحيد تبنى مهمة حماية الأخرين من فقد أحبائهم تحت عجلات القطارات مثل والده. عزيزة تمضى أيامها منتظرة مبلغ التعويض وأملها نار لا تنطفئ.
وحيد: لکل انسان نصيب من اسمه، الکاتبة تسرد علينا قصة متکررة بضمير الغائب فهو غائب دومًا و لا محل له من الاعراب، قصة الآباء المغتربين خارج البلاد يتحولون إلى بنوک افتراضية منفصلة عن واقع العائلة و أفرادها. تقود الکاتبة قارئها حتى لايتعاطف مع البطل الذى أفنى عمره في الغربة ولم يعد لوطنه حتى ليکرم والديه في رحلتهم الأخيرة ليطيع ضغوط زوجته سعيها المحموم وراء الرفاهية. ليکون مصيره خيانة مکررة من زوجته ومحاميه يسلبناه شقى عمره ويظل وحيد وحيدًا.
جورب نايلون: تقرأها کأنها بوست في أحد صفحات المشاکل الاجتماعية على تطبيق فيس بوک التى تنتظر اقتراحاتنا وحلولنا. الزوجة تحاور نفسها کأنها مجنونة عن شکوکها في سلوکيات زوجها مؤخرًا وتجمع الأدلة، لکنها في وسط الاحداث تصدر قرارها "لن اواجهه". لتکتشف في النهاية أن الطرف الثانى في الخيانة هى صديقتها المقربة، و تنتهى القصة و القارئ يسأل نفسه "من ستواجهين الآن؟"
يوم من الحرية: الکاتبة تنهى مجموعتها القصصية بحقيقة مُرة مثل العلقم، قد لا نقبل الحرية حتى عندما تُمنح لنا. فمع اعتياد القيود والاسوار يخشى المرء البُعد عنها ويخنع إلى سياسة الطرف المهيمن والمسيطر.
سرد الجمادات والواقعية السحرية:
منى عاشور عمدت إلى عالم العجائبيات والغرائبيات، واقتربت من عوالم الفانتازيا والواقعية السحرية في بعض من قصص هذه المجموعة، مثل: "الزنزانة المتحرکة" و"صيد الربيع" و"صلوات البحر" و"صرخة" و"عتاب وحنين" و"المرايا".
وقد تنوعت أدوات الکاتبة في هذه المحطات: فمرة تبدأ من لقطة واقعية عادية ثم سرعان ما تحوّل المواقف والأحداث إلى أبطال مغايرين تؤثر فيهم الحوادث الغريبة الفانتازية وتحوّل سير الأحداث بالتالي تحولاً کبيرًا.
ومرة تلتقط بعض المهمشيين المرتبطين بالخرافات ويميلون لتفسير الحوادث حولهم على نحو غرائبي حتى يصلوا إلى اليقين.
واستدعت خلال ذلک لغة عصرية تبرز التفاصيل اليومية مع ما يصدر على أسنة الناس من ابتذالات وتجاوزات.
و بالطبع اعتمدت على التناص وظهرت ملامح بعض الحکايات الأسطورية وحتى ملامح أفکار من حلقات تليفزيونية.
وربما يکون التجلي الأکبر لعالم منى عاشور الغرائبي وتجربتها السردية ومقاربتها بين الواقعية السحرية وعوالم ألف ليلة وليلة قد اکتملت تمامًا في قصة المرايا، حيث وجدنا ذلک العالم شديد الخصوصية الذي يحوي الخرافات والحکايات الغرائبية وبنت من خلاله عالمًا شديد الجاذبية والتأثير، لتسرد علينا حکاية الشبح "کورونا" الذى حولنا معه إلى أشباح.